ولاية المرأة ...... ملكة سبأ نموذجاً



فاتن ناظر
2024 / 6 / 3

يقول بن رشد : " الله لا يمكن أن يعطينا عقولاً  ويعطينا شرائع مخالفة لها " .
ويقول الله في قرآنه الكريم : 《المؤمنون والمؤمنات بعضهم اولياء بعض 》.
ويقول أيضاً نبيه محمد في حديثه : " النساء شقائق الرجال ".
وأيضاً قال : " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيتكم " ، فلم يقل الرجل راع ، وإنما قال كلكم مما يعني الرجل والمرأة سواء  .

لقد ذكر الله في قرآنه الكريم ولاية المرأة وحسن تدبيرها لشئون شعبها وحسن قيادتها وعنايتها ورعايتها لهم ، وذلك من خلال ذكره لقصة ملكة سبأ التي أفرد لها سرداً قرآنياً مطولاً في سورة النمل .
وقدكانت ملكة سبأ تتصف بمُلك وفير وجاه عظيم وولاية حكيمة وعرش لم يؤتَ لأحد من قبلها .
إن ذلك العرش كان له وقع عظيم في نفس سليمان ، فقد كان سبباً في غبطة سليمان منها ، لأنه حينما سمع عنه وأذهل به ممن ارسله إليها يدعوها إلى الإيمان به والتسليم له ؛ حينها دعا ربه《قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي) .
وإذا كان ذلك وصفاً للجاه والسلطة والمُلك والعرش ، إلا أنها كانت تتصف كذلك بصفات فكرية جمّة تجعلها تستحق تلك المكانة من حيث الذكاء والفطنة والحصافة في التفكير وإتقاد الوعي والإدراك المستنير .
كل ذلك كان من شأنه أن يمكّنها من إتخاذ القرار الصائب والتدبر الصحيح ، إلا أنها كانت لا تقطع أمراً أو تبدي رأياً إلا استشارت فيه أولو الأمر . وعلى الرغم من اقتراحهم إياها من الإقدام على الحرب والخوض فيه ومباركة النصر لها ولشعبها  لأنهم أولي بأس وشدة ، إلا أن قولها جاء به الكثير من الرؤية الثاقبة والرويّة الفكرية التي لا تتصف بالمحدودية والخالية من أي حمية جاهلية ، فقد كان قرارها تجنيب قومها وشعبها ويلات الحرب وهزائم خسارته أمام النبي سُليمان .
ولأنها كانت تعلم بخبرتها القيادية أن ملوك الدنيا إذا دخلوا المدن أفسدها وأهلكوها وحولوا أعزة أهلها أذله ، وهو ما فيه من تبدّل لأحوال الشعب والرعيّة ؛ لذا آثرت الذهاب والخروج إليه بنفسها لتتحقق هل سُليمان نبي مُرسل أم ملك مُعادي ، ولكنها لم تخرج إليه خروج المنهزم المستسلم المُساق إلى الإيمان يجر في ركابه ضعفه وإذلاله ، وإنما خرجت إليه خروج الإباء والكبرياء والعزة وهذا ما أكده السرد القرآني من حيث قولها :《وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين 》 .
وتعني هنا كلمة قبلها : أنها قد أسلمت استناداً واعتماداً على علمها الذي تتمتع به من قبل قدومها إلى سُليمان ، وأنها لم تكن بحاجة إلى رؤية كل تلك المعجزات ومظاهر القوى الخارقة التي صنعها لها سُليمان لكي تؤيده وتذعن له ويستيقن الإيمان قلبها سواء من حيث تنكير العرش أو الصرح أو القوارير الممردة ، فقد قَدُمت إليه مؤمنة به مستيقنة بربها يقودها عقلها ، فلا حاجة لها لتلك الدلائل والآيات .
حينها ....... أعلنتها مدوّية بعزة  وشموخ 《ربي إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين 》.
فحينما أعلنت إسلامها لم تقل لسليمان و إنما قالت مع سليمان ، أي أنها أعلنت الإسلام وليس الاستسلام.

إننا حينما نتأمل قصة ملكة سبأ وما بها من نهج ونموذج لولاية راشدة حكيمة قوية ، نجد أن القصص القرآني بذلك قد دحض أي مزاعم تشكك وتسئ في قيادة المرأة وولايتها وحسن إدارتها ، ويجعلنا نندهش أكثر ممن يروجون إلى عدم جواز ولاية المرأة ، بل وصلوا في ذلك إلى حدّ التحريم ، وذلك استناداً منهم وتأسيساً إلى حديث نبي الله محمد حينما قال : " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " .
ولنا أن نعلم أن ذلك الحديث لم يكن حديثاً متواتراً ، وإنما حديث آحاد رواه أبو بكرة الثقفي .
إن أبي بكرة الثقفي هذا قد سبق وقد أقام عليه عمر بن الخطاب حدّ الجلد ، وقد كان ذلك نتيجة لشهادته  وآخرين معه في واقعة المغيرة بن شعبة .
وقد روى أبو بكرة الثقفي ذلك الحديث أثناء أحداث الفتنة الكبرى ؛ أي بعد موت الرسول وبعد تولي أبو بكر وعمر  وعثمان للخلافة ؛ فقد رُوي في عهد علي - رابع الخلفاء الراشدين - مما يعني أنه ربما ومن الجائز أن خضع لأي تشويش فكري أو استقطاب سياسي أو ديني لصالح فريق ضد آخر .

فكيف يتأتى لنا أن يكون حديث آحاد سنداً ومرجعاً وسُنّة ، رغم مغايرته ونفيه لما تُقرّه عقولنا ، ولما تؤكده العديد من الديانات التي جاءت تعاليمها متماسكة ومتلازمة مع فكر كل من آمنوا بها واعتنقوها .

وبعد يجدر السؤال ...... لماذا استمسك هؤلاء واستيقنوا بحديث آحاد يدعم ويؤيد وجهة نظرهم وتغافلوا عمداً عن العديد من النماذج النسوية التي ذُكرت في كتب السنة النبوية والتي تُثني وتبجل للكثير من النساء الفضليات التي شاركن النبي محمد في غزواته من أجل نُصرة الإسلام؟ 
لقد تفوقهن النساء في مناحي القتال والجهاد والولاية وسطروا في كتب التاريخ سطوراً زاخرة  عامرة بمعاني الصمود والثبات ، ومن بينهن السيدة صفية بنت عبد المطلب التي أشهرت سيفها أثناء القتال تضرب به يميناً ويساراً مردّدة عبارات الحث على النصر ونبذ اليأس وبث الأمل في نفوس المقاتلين . وأيضاً مثل أم عمارة نسيبة بنت كعب التي قال عنها الرسول : " ما التفت يميناً ولا يساراً إلا وأنا أراها تقاتل دوني ".  وقد استعان أيضاً عمر بن الخطاب بالنساء أثناء خلافته وولى الشفاء بنت عبد الله العدوية القرشية ولاية الأسواق  .

وإذا كانت تلك نماذج من النساء في القرآن والسنة ممن
تكبدن عناء الجهاد والكفاح ، فنجد أن النماذج النسوية في العهد القديم عديدة ومتعددة ، وقد ذكر ذلك القديس إكليمندس الروماني حين قال : نجد في العهد القديم نساء كثيرات صرن قويات بالنعمة الإلهية وقمن بأعمال خارقه. عندما رأت يهوديت المغبوطة أن مدينتها مُحاصرة، طلبت من الشيوخ أن يسمحوا لها بالخروج إلى معسكر الغرباء. عرضت نفسها للخطر حباً في وطنها وشعبها المُحاصر . وأيضاً نجد استير كاملة الإيمان عرضت نفسها لخطر لا يقل عن هذا من أجل خلاص الأسباط الاثني عشر من هلاك خطير ، وكانت تتضرع صامته متذللة أمام الله . وقد نظر الله إلى تواضع روحها، فخلص الشعب الذي قدمت نفسها للخطر من أجل خلاصه. 

وأيضاً لم يكن العهد الجديد أقل شأنا من ذلك ، ويشهد على ذلك أقوال القديسين والرهبان  .
ومن بينهم يقول القديس باسليوس الكبير: أن طبيعة المرأة تتفوق أحيانا كثيره على طبيعة الرجل ، ويضيف: إن جنس المرأة يجاهد بنفس قوية وشجاعة، لذلك تُسجل أسماؤهن في قائمة المُجاهدات. وهناك كثيرات من النساء تفوقن على الرجال ونلن كرامة وشهره عظيمه، من هؤلاء من تألقن في ميدان الاعتراف بالإيمان والفوز بإكليل الشهادة والجهاد ، فالذين تبعوا الرب في مجيئه ليس الرجال فقط، بل النساء أيضا، ومن الأثنين يكتمل الخلاص.

ولا نستطيع أن ننسي في وقتنا الراهن المعاصر المرأة الفلسطينية الأبيّة التي رفضت مساومة العدو ومفاوضته على الأمن مقابل الأرض ، والتي ضربت أورع  مثل في المثابرة والجهاد والصمود وقدمت نهجاً ومنوالاً يحتذى به في معركة النصر والكرامة ، فقد أرست ورسّخت مبدأ الموت وقوفاً أفضل من الحياة ذليلاً .
فهنيئاً لكل امرأة خُلقت انثى في وقت عزّ فيه الرجال،  فقد صنعت لنفسها سبيلاً ودرباً يفوق الذكران وليس مساوياً لهم .