شاحنات الموت تواصل حصد أرواح الكادحات في القطاع الفلاحي



مرتضى العبيدي
2024 / 7 / 17

ظروف النقل غير اللائق والتطبيع مع الموت
تحمل لنا وسائل الإعلام بشكل متواتر أخبار شاحنات الموت التي تعصف بين الفينة والأخرى بحياة عدد من العاملات الزراعيات في بلد يعوّل بالأساس على سواعدهنّ لتوفير ما يحتاج إليه من المنتوجات الفلاحية التي تموّل يوميا أسواق الجملة والتفصيل في كافة ربوع البلاد.
وما لا يعلمه الكثيرون أن عاملات الفلاحة يعتبرن أن رحلة الذهاب إلى مواقع العمل والعودة منها لا تختلف في شيء عن رحلة رعب يعشنها كل يوم. وقد تطول هذه الرحلة في بعض الأحيان في حالة تنقلهن الى ولاية مجاورة (بين 5 و30 كم). وخلال الرحلة لا يتورع سائقو الشاحنات عن سكب الماء في منصة الشاحنة لمنع النساء من الجلوس، حتى يتمكنوا من نقل أكبر عدد ممكن من العاملات؛ وقد يفوق عددهنّ أحيانا 30 امرأة إلى درجة أنهن يضطررن للوقوف على قدم واحدة لتمكين عدد أكبر منهن من التنقل. كما أن هؤلاء لا يقتصر دورهم على خدمة النقل، بل هم يقومون بأدوار متعددة لعل من أهمها دور الوسيط بين العاملات وصاحب الأرض اذي كثيرا ما لا تعرفه العاملات، بل إن مخاطبهن الوحيد هو هذا السائق / السمسار / الوسيط الخ... فهو الذي يتسلم عوضا عنهن أجورهن ويوزعها عليهن حسب مقاييس لا يعلمها غيره. فلا أحد بإمكانه أن يفهم لماذا تتقاضى عاملة ما 10 دينارات في اليوم بينما تتقاضى أخرى 13 أو 15 دينارا. وكثيرا ما يكون هذا الشخص هو المتسبب الرئيسي في الحوادث التي تودي بحياة الأبرياء.
حصاد سنة 2024 من الضحايا
إن نظرة سريعة لأحداث شهر جويلية 2024 الذي لم ينقض منه سوى أسبوعه الأول تجعلنا نهتز تحت وقع الأخبار الحزينة التي حملها إلينا:
ـ فبتاريخ 8 جويلية عاشت منطقة المرناقية من ولاية منوبة على وقع حادث مريع تمثل في انقلاب شاحنة نقل كانت تقل 23 من عاملات مصنع شرائح الطماطم بالمنطقة، أصيب خلاله جميعهن بإصابات متفاوتة الخطورة تم على إثرها نقلهن الى مستشفيات الجهة والعاصمة.
ـ وقبل ذلك ببضعة أيام وتحديدا يوم الثاني من نفس الشهر، سجلت معتمدية بوحجلة من ولاية القيروان حادثا خطيرا تمثل في انقلاب شاحنة تقلّ عاملات فلاحيات على مستوى الطريق الرابطة بين معتمدتي بوحجلة والقيروان الجنوبية، أسفر عن تعرض ثماني عاملات إلى إصابات متفاوتة الخطورة.
ـ وكانت منطقة دار الجمعية، من معتمدية السبيخة، ولاية القيروان شهدت في السادس والعشرين من جوان الماضى حادثا أكثر خطورة تمثل في انقلاب شاحنة نقل فلاحي أسفر عن وفاة طفلة في الـ15 من العمر كانت تركب في الصندوق الخلفي للشاحنة رفقة عدد من نساء المنطقة كنّ في طريقهن إلى العمل بأحد حقول الطماطم، وخلّف إصابة 14 عاملة بجروح متفاوتة الخطورة إحداهن فقدت بصرها على إثر تعرضها لكسور على مستوى الجمجمة.
وعلى إثر هذا الحادث، أدانت الجمعيات الحقوقية والنسائية ومنها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية وجمعية "أصوات نساء" ومنظمة "مساواة" تواصل تشغيل القصّر في الأعمال الفلاحية وفي غيرها من القطاعات، وهي ظاهرة تتكاثر في مواسم العطل المدرسية، حيث تلجأ لها العائلات بحكم الحاجة الى مداخيل إضافية. وقد أكد حادث بوحجلة نفس الظاهرة إذ أن أربعة من المصابات كنّ قُصّرا.
ـ وفي 5 فيفري 2024، جدّ حادث انقلاب شاحنة خفيفة كانت تقلّ عاملات في القطاع الفلاحي، على الطريق المعبدة وغير المرقمة في منطقة أولاد خلفة بمعتمدية جلمة بولاية سيدي بوزيد، أسفر عن وفاة عاملتين فلاحيتين وإصابة 29 شخصًا بإصابات متفاوتة الخطورة من بينهم طفلان يبلغان من العمر 5 و6 سنوات، وفق ما جاء في بيان أصوات نساء الصادر بتاريخ 5 فيفري.
ـ وقبل ذلك وبتاريخ 14 جانفي، جدّ بولاية بنزرت على مستوى الطريق الرابطة بين بنزرت وسجنان حادث خطير تمثل في خروج شاحنة لنقل البضائع كانت تقلّ مجموعة من عملة الفلاحة حدد عددهم بـ63 عن مسارها وسقوطها بمنحدر بالحاشية الترابية. وقد خلف الحادث إصابة 39 شخصا بين عاملات وعملة بإصابات متفاوتة الخطورة من بينهم إصابة 4 عاملات بكسر على مستوى الحوض مما استوجب الاحتفاظ بهن في المستشفى لإجراء عمليات جراحية.
من الاستغلال الاقتصادي الى الاتجار بالبشر
وقد أشار المنتدى في بيانه بالمناسبة إلى أنّ "حوالي 215 ألف طفل في تونس يعملون في قطاعات مختلفة وذلك حسب آخر دراسة أنجزتها وزارة الشؤون الاجتماعية بالتعاون مع منظمة العمل الدولية والمعهد الوطني للإحصاء"، لافتًا إلى أنّ "50% منهم يشتغلون في القطاع الفلاحي وتتفاقم النسبة في أيام العطل المدرسية". وهو شكل من أشكال "الاستغلال الاقتصادي للأطفال الذي يرتقي الى جريمة الاتجار بالأشخاص الذي تمنعه كل القوانين والصكوك المتعلقة بحقوق الطفل وطنيًا ودوليًا". والأخطر أن الظاهرة في تفاقم مستمر أمام غياب أجهزة الرقابة والصمت المدوّي للجهات الرسمية.
هذا إذا ما اقتصرنا على معطيات السنة الجارية وهي لم تختلف الى حدّ الآن عن سابقاتها، وقد أشار أحد تقارير المنتدى الى أن الحوادث المسجلة هذا العام لا تختلف على سابقاتها لا من حيث أسبابها ولا من حيث مخلفاتها. وقد أحصى المرصد التابع للمنتدى منذ 2015 74 حادثا، خلفت 870 جريح/ة و60 حالة وفاة، وهو رقم مفزع يتصاعد من سنة الى اخرى رغم صدور قانون ينظم عملية نقل العملة والعاملات. ويحدد الامر الترتيبي المتعلق بأساليب تطبيقه الشروط والمواصفات اللازمة لوسائل النقل الخاصة به كما يخضع هذا الصنف من النقل حسب القانون الى تراخيص تمنح بشروط وتحت رقابة هياكل الدولة وممثلي الوزارات المعنية. لكن المرصد سجل منذ صدور القانون عدد 51 لسنة 2019 المؤرّخ في 11 جوان 2019 ،33 حادثا تسبب في وفاة 15 عاملة و322 جريح/ة.
بين الوعد والإنجاز... بون شاسع
ونذكر أنه بتاريخ 13 أوت 2020، قام قيس سعيد بزيارة الى مجموعة من العاملات الفلاحيات ووعدهن خيرا بمستقبلهن وبتأمين حقوقهنّ، إلا أننا لم نشهد منذ ذلك الحين تحسّنا في أوضاعهنّ المعيشية والشغلية. وهو ما يؤكد الهوة السحيقة التي تفصل الخطاب الشعبوي عموما عن الإنجاز. ففي هذا المجال بالذات، فإن الشعب يريد فورا إيقاف هذا النزيف الذي يودي سنويا بأرواح بريئة، كما يريد تعميم التغطية الاجتماعية لهنّ، وتوفير ظروف عمل لائقة تحفظ لهن كرامتهنّ، وظروف نقل إنسانية.
وقد جاء في بيان المكتب الجهوي لمنظمة مساواة بالقيروان الصادر على إثر الحادث الأخير الذين شهدته الجهة ما يلي:
“إن المكتب الجهوي لمنظمة مساواة
- يعبّر عن مطلق تضامنه مع عائلات ضحايا هذا الحادث الأليم
ـ يحمّل الدولة مسؤولية تكرار هذه الحوادث بعدم تفعيل القانون 51 الذي يتطلب في حدّ ذاته مزيد التطوير بما يتماشى والبنية الاجتماعية للمناطق الفلاحية بالبلاد
ـ يدعو كل المنظمات النسوية والحقوقية والقوى الحية بالبلاد لتوحيد الصفوف دفاعا عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لعموم نساء تونس وعلى رأسهن العاملات في القطاعين الفلاحي والصناعي”