الجزء الأخير : صفاء تبحث عن الصفاء-



صفاء زويدي
2024 / 7 / 25

وهكذا، تظل صفاء تروي قصتها للأجيال القادمة، لتذكرهم بأن القوة الحقيقية تكمن في القدرة على المسامحة والبدء من جديد، وأن الحب يمكن أن يشفي أعمق الجروح. وفي لحظة حاسمة، تنهض صفاء من الأرض، وقد اتخذت قرارها. لم تعد تلك الفتاة الهشة، بل أصبحت المرأة القوية التي ستواجه الظلم. تترك المنزل المهجور وتبدأ في التخطيط للانتقام. تعود صفاء إلى مدينتها، وتخطط بدقة لكل خطوة. تشعر بأنها أصبحت قوية بما يكفي لتنتقم من عائلتها فتتخيل كل لحظة انتقامها بوضوح، وتخطط ببرودة أعصاب كما لو كانت جزارًا ينتقم بعد طول انتظار. بعد دقائق تنهض وتترنح، فكل جزء من جسدها يئن، ولكن هذا لم يردعها، بل واصلت طريقها وفي ذهنها شيء واحد: الانتقام.

إنه عيد الحب اليوم، عيد حب العشاق، ولكن في هذا اليوم بالنسبة لي، إنه عيد الانتقام...

بدأ يفتح عينيه ببطء، لماذا يشعر بخدر في جسده والشعور بالنوم ينتابه؟ حرك رأسه ينظر حوله وهو يتذكر ما حدث... كانت بجانبه حبيبته، ولكن لم يستطع التذكر، كل ما يتذكره هو حبيبته والعشاء الرومانسي. نظر للأسفل فوجد جسده قد قُيِّد، وبعد برهة بدأ يعي أنه مقيد. ما هذا المكان؟ مكان مظلم تفوح منه رائحة نتنة، إنه يعرف هذا المكان، نعم نفسه... نظر بجانبه فإذا بأختها مقيدة، نائمة ورأسها يتمايل على الكرسي المترنح ووجهها يلفه الدماء. اتسعت عيناه من هذا المشهد، أغمض عينيه لحظات ثم فتحهما ليزيل أثر النعاس الذي يزداد.

"مرحبا حبيبي، أتشعر بالنعاس؟ ربما ذلك بسبب جرعة المورفين التي حقنتها لك، قبل أن تستيقظ..."

ينظر إلى يمينه ليتأكد مما رأى فيجد حبيبته مغطاة بالدماء ولا تتحرك.

"لا تخف، لم تمت، إنها نائمة بمفعول المخدر."

ليتنفس الصعداء، وبعدها ينظر إليها وعيناه تشعان حقدًا...

اعتدلت في جلستي وأنظر له بنفس تلك النظرة التي جعلته يفزع. جعلت عيناه الواسعتان تتجولان في المكان بقلق، تبحثان عن مخرج من متاهة الرعب التي كان يعيشها. كل نبضة من قلبه كانت تصرخ بالهلع، تدق بقوة وكأنها تريد الهروب من صدره. كانت أنفاسه متسارعة لاهثة، وكأن الهواء يختنق في رئتيه، صوته كان يتقطع عن الحديث، كأن كلمات الخوف تعترض طريقه من الحنجرة إلى الشفاه.

كانت كلماته تتعثر بين شفتيه: "أعلم أنني لا أستحق، لكنني أتوسل إليك، اغفري لي..."

تضحك بهستيرية تكاد تسقط.

"إن الظلم الذي عانيته كان كالسيف الذي مزق أحشائي وترك في قلبي ندوبًا عميقة لا يمحوها الزمن. إن الألم الذي أشعر به لا يمكن للكلمات أن تصفه، فهو يغمرني كالأمواج العاتية التي لا تعرف الرحمة، ويشعل في داخلي نارًا لا تنطفئ. لقد أخذت مني الطمأنينة والثقة والمحبة وتركتني أترنح في ظلام لا نهاية له، متسائلًا إن كان للعدالة مكان في هذا العالم."

"لن أنسى ما فعلته بي، لقد أخذت مني الكثير، والانتقام سيكون طريقي لاستعادة ما سلبته، وسأجعلك تدرك معنى العدالة."

سكون المكان يخترقه صوت أنفاسها المتسارع، والظلال تلعب على جدران الغرفة وكأنها تشهد على المعركة النفسية الدائرة. خطواتها الرقيقة كأنها رقص الموت، عيناها تتوهجان ببرد الانتقام، وقلبها ينبض بإيقاع الانتصار القادم. وأخيرًا، حان دورك لتذوق طعم الخوف الذي زرعته في قلبي.

عيناه تتسعان رعبًا، يراقبها وكأنه فريسة محاصرة، يلعن اللحظة التي استهان فيها بمشاعرها.

بصوت مرتجف: "من فضلك سامحيني، لقد كنت أحمقًا."

تستفيق من غفوتها لتجد حبيبها أمامها يجلس على كرسي وقد انفتح فمه والدماء تخرج منه مغرقة جسده، و... عيناه غير موجودتين والدماء تخرج من موضعهما ودماء تخرج من أذنيه... كل هذا والقتيل يجلس على الكرسي الذي امتلأ بالدماء. تحسست نفسها فوجدت فمها مملوءًا باللحم... تجلّدت في مكانها من هول ما رأت. المشهد المروع أصابها بالصدمة، شحب وجهها كالموتى.

عندما شاهدت ما حدث، انشقت روحها إلى شظايا لا تجمعها سوى الجنون، وغرقت في بحر من الذكريات المؤلمة، فاختارت الجنون ملاذًا آمنًا...

انتهى انتقام الأول، ولكن لا يزال قلبها غير راضٍ...

توقفت الآن في غرفة النوم المظلمة، وعلى الفراش رجل وزوجته يغطيان في النوم، لا يشعران بباب الغرفة وهو يفتح، لا يشعران بالفتاة التي تدخل منه وتقف بجانب أمها التي تنام وقد ظهر جزء من ذراعها. ثم بدأت بحقنها في ذراعها، ثم اتجهت إلى أبيها وحقنته بنفس المخدر... بعد أن أحست أن المخدر قد أخذ مفعوله...

بدأت تفيق وتحاول أن تتذكر كل ما حدث قبل لحظات، لكن قبل أن تفتح عينيها اخترقت أنفها رائحة طعام شهي يشبه رائحة الشواء ولكنها رائحة أثقل بكثير... حاولت أن تفتح عينيها لتجد زوجها مقيدًا على المقعد. نظرت إلى أرجاء الغرفة، كانت الرؤية غير واضحة وكان على عينيها طبقة من الدموع تحجب الرؤية أو أقول دماء وتجعلها صلبة. إنها في منزلها. حاولت فتح عينيها جاهدة، فإذا بزوجها مبتور القدمين اتسعت عينيها برعب.

وفجأة سمعت صوت شخص يأكل على يسارها. حركت رأسها ببطء، ولكن الرؤية لا زالت مشوشة، ولكنها كانت قادرة على التمييز حيث رأت فتاة تجلس على أحد أطراف الطاولة، أمامها طبق صغير به قطع من الشواء الذي كانت تشم رائحته...

كانت تأكل باستمتاع وتنظر إلى عينيها وتبتسم...

عندما اتضحت لها الرؤية، انكشفت لها خيوط المؤامرة، وكأنها نافذة فتحت في قلبها فتجلت لها الحقيقة...

نعم، ذلك اللحم من زوجها، وتلك الفتاة هي ابنتها...

المشهد المروع كان كالصاعقة عليها فانهارت تمامًا من هول ما رأت...

وضعت الكرسي أمامها وما هي إلا دقائق وفتحت عينيها، لتجدها أمامها تنظر إليها بكل حزن وشفقة...

"غدركم كطعنة خنجر في ظهري، فلم يعد قلبي يثق بكلمة ولا يجد راحة سوى ذكريات الماضي التي تحولت إلى رماد بين يدي..."

حاولت أمها التكلم ولكن شفاهها عجزت عن التعبير، فغابت الكلمات في دوامة من الصمت الموجع.

"أعلم أني لا أستطيع محو الماضي، لكنني أريد أن نبدأ صفحة جديدة. ربما لن أنال مسامحتك اليوم، ولكن أرجوك أعطني فرصة لأثبت لك أنني قادرة على التعويض عن أخطائي..."

التغيير شيء، لكن الألم الذي سببتموه لا يمكن محوه بكلمات. سأحتاج إلى وقت طويل لأتعافى مما حدث. ربما يوماً ما سأستطيع مسامحتك، لكن ليس اليوم.

تقول وهي تمسك رأسها بين يديها في لحظة انهيار:

"لقد جعلتموني أعيش في عالم من الألم الذي بنيتموه بأيديكم، وتركتموني أتخبط في ظلام الخيانة مثل سفينة فقدت بوصلتها في بحر عاصف. لم يكن الجرح مجرد خدش عابر، بل كان سيفا مزق ثقتي وأحلامي. أتساءل إن كان ضميركم يستطيع النوم بهدوء بينما قلبي يستيقظ كل ليلة باحثًا عن سبب لما فعلتموه. أنتم لم تسرقوا مني لحظات الفرحة بل جعلتموني أشكك في جوهر الإنسانية نفسها، وأبحث عبثًا عن بقايا شخصيتي التي حطمتموها دون رحمة..."

تقول لهما بصوت باكي وكأن الكلمات تسحب منها بصعوبة:

"لقد خلفتم في قلبي وجعًا لا يمكن الزمان أن يشفيه وجعلتم من طفولتي حقلاً للألم الذي لم أكن أستحقه. كنتما أول من كان ينبغي أن يحضنني ويحمي مشاعري، لكن بدلاً من ذلك، تسببتما لي بألم كان يجب أن يكون غريبًا عني. في كل ليلة، أتساءل كيف يمكن للآباء أن يلقوا بهذا الحمل الثقيل على كاهل ابنتهم، وكيف يمكن للأم والأب أن يطعنوا قلب طفلتهم بالكلمات القاسية وفعلهما الشنيع. كبرت وأنا أحاول أن أجد حبًا لم تمنحاني إياه، وأبحث عن السلام في عالم لم أكن مستعدة لمواجهته بسبب ندوبكم..."

لكن في الليلة التي قررت فيها المواجهة، حدث شيء غير متوقع. وبينما كانت جالسة بمفردها في غرفتها، أخذت تتأمل في قلبها الطيب ونفسها النقية. أدركت أنها إذا انتقمت، ستصبح مثلهم وستدمر الجزء الجميل والنقي من روحها.

كان حبها الطاهر وصفاء قلبها أقوى من الرغبة في الانتقام. تقرر صفاء أن تسامح، ولكن ليس لأنها ضعيفة، بل لأنها قوية بما يكفي لتتجاوز الألم وتبدأ من جديد. تجمع شجاعتها وتذهب إلى أمها وأبيها وأختها لتواجههم بالحقيقة. تقول لهم بعبارات هادئة لكن حازمة:

"لن أعيش في ظل كراهيتكم. لن أكون ضحية بعد الآن. سامحتكم ليس لأنكم تستحقون، بل لأن قلبي الطيب يرفض أن يظل ملوثًا بالكراهية. سأترككم وأبدأ حياتي من جديد ولن تمنعوني من العيش بسعادة."

تترك منزلهم دون أن تنظر للوراء، وبهذه اللحظة تبدأ حياة جديدة. تكشف صفاء أن الحياة قد تكون قاسية في بعض الأحيان لكنها يمكن أن تكون جميلة أيضًا. تشعر بالسلام الداخلي وهي تبدأ فصلًا جديدًا من حياتها. تعيش مع زوجها حياة مليئة بالسعادة والطمأنينة ويصبحان عائلة صغيرة مليئة بالحب والدفء...

تكتب صفاء قصتها وتنشرها لتصبح مصدر إلهام للكثيرين، تظهر للناس أن القوة الحقيقية تكمن في القدرة على المسامحة والبدء من جديد، وأن الحب يمكن أن يشفي أعمق الجروح. وهكذا تعيش صفاء حياة مليئة بالإنجازات. تظل ذكريات الماضي حاضرة لكنها لم تعد تسيطر عليها. لقد تحولت من ضحية إلى بطلة، ومن ألمها نبتت قصة نجاح عظيمة تروى للأجيال.