المرجعية وقطاع الطرق



منير صادق
2024 / 8 / 17

منذ أكثر من عقدين والمجتمع العراقي في ذهول مما يصدر من أتباع مقتدى وغيرهم من جماعات إسلامية، من تصرفات وافعال لا تدل إلا عن همجية ونذالة مرتكبيها، وعن هذا التحالف بين مقتدى والكم الكبير من اجلاف المجتمع ومن لصوص وكأن التيار الصدري بات بؤرة تجذب كل منحرف في المجتمع، ولا يمكن أن نتجاوز دلالة الجملة الساخطة التي رُددتْها الجماهير دائماً، علناً أو سراً " مقتدى يا زبالة يا قائد النشالة"، ومضمون هذا الهتاف ليس جديد بدأ مع مقتدى، بل قديم ويصدق على جميع المراجع والمجتهدين الشيعة على مر تاريخهم.

في هذه السطور محاولة لا تتعدى إلقاء نظرة وليس دراسة مفصلة، عن علاقة مراجع الدين الشيعة بقطاع الطرق والرعاع، والاعتماد عليهم كقوة ضاربة في بسط سلطتهم على الآخرين وجمع المال الديني، أو في المواجهة مع خصومهم السياسيين وغيرهم، وما نذكره هو توطئة ليس إلا، لحقائق تاريخية سُجلت منذ قرون خلتْ، تعرض لها مؤرخون ودارسون "وكشفوا الغطاء" عن هذه العلاقة المريبة.

يستقر رجال الدين الشيعة، أو ما يُعرف بالمراجع قرب مراقد الأئمة في النجف وكربلاء والكاظمية، وفي مشهد الإيرانية وقم. ولكل منهم حوزته يمارس من خلالها سلطته الروحية، ونفوذه الزمني والسياسي.

السلطة الروحية للمرجع أو المجتهد باعتباره نائب أو وكيل لظل الله على الأرض- المهدي- وطاعته متسلسلة مثلها مثل المعادلة المنطقية القائلة: إذا كانت ا= ب، وب = ج، فأن ج بالضرورة = ا. فإنهم قد خلعوا على أنفسهم قداسة إلاهية، ولكنهم وفي ذات الوقت تجدهم في الواقع عبارة عن صيارفة يكدسون أموال الخمس والزكاة وباقي الهبات والإتاوات الدينية، ومُلاك أراضي وتجار، وهذه المكانة الدينية والاقتصادية حرصوا على مدى قرون أن يجعلوا منها ومن حوزاتهم ومؤسساتهم الدينية دولة داخل دولة، سواءً في إيران أو في العراق، وهذه الدويلة تحتاج بطبيعة الحال إلى جيش وقوة عسكرية تدافع عنها وتحميها، لضمان نفوذهم وأملاكهم.

وسنتطرق إلى المصادر التاريخية، والدراسات النظرية، التي ذكرت وناقشت هذا الموضوع، وندعها تتكلم انطلاقاً منذ أولى الإشارات التي دونت لوجود ظاهرة تحالف مراجع الشيعة مع قطاع الطرق أو ما يُعرف باللوتية قبل قرون، وما صاحب هذا التاريخ من أحداث جسيمة ومجازر، وسلب ونهب واغتصاب، قامت بها المافيات التابعة للمراجع وبدعم منهم.

في إيران[1] أربعينيات القرن التاسع عشر، كانت الجماعات اللوتية أشبه ما تكون بالجماعات السرية التي تورطت في بعض الأحيان بأعمال السطو والنهب لحسابها الخاص، ومثلت في أحيان أخرى الذراع التنفيذية للسطلة الدينية. ومصطلح أو مفردة "اللوتي" فقد اعتادت المصادر العراقية على طرحه كمفردة عامية تركية دارجة في اللهجة العراقية؛ إذ تمت ترجمته تحت معنى المحتال، الفطن، المراوغ، وأشير بكونه عائداً في جذوره إلى تعبير (لوطي) الفصيح، وإن اللغة التركية قد اقتبسته. فيما أشار مصدر آخر إلى اعتبار مفردة "اللوتي" من جذر كردي وتعني الفاسق، المحتال، المخادع. ومنهم من رجح رجوعها إلى العربية الفصحى ومن فعل لات: لوتاً وليتاً، أي أخبر بالشيء على غير وجهه وكتمه وآتى بخبر سواه. فقد اصبح زعيم هذه الجماعة المدعو رمضان شاه الزعيم الفعلي لمدينة اصفهان وضرب النقود باسمه، بدعم من المجتهد محمد باقر الشفتي وإعراض عنهم مرة، حسب ما تقتضيه اغراضه السياسية، الذي قصد العتبات المقدسة في العراق عام 1783 حيث درس على يد وحيد البهبهاني وجعفر كاشف الغطاء، ثم عاد ليستقر في اصفهان. أثرى بعد فقر مدقع وصار عظيم الثراء؛ إذ امتلك القرى والعقار والضياع في اصفهان ويزد وبروجرد وشيراز[2]. حاز على أموال الخمس الهائلة من داخل إيران وخارجها بما في ذلك الهند، وضع رسالة في ضرورة مباشرة المجتهدين مهام الأمام الغائب في تنفيذ الأحكام والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقام بنفسه بمباشرة مهام القضاء والتنفيذ، حيث حكم على الكثيرين بالإعدام.

في اصفهان كانت ثمة علاقة مستمرة ما بين اللوتية والسلطة الدينية العليا. فقد مثل اللوتية القوة التي من الممكن تحريضها بالضد من الحكومة؛ إذ وفرت المساجد الملاذ لهم وأصبحت مساكن العلماء ملجأهم النهائي للاحتماء من الانتقام والقصاص.

وقصة تمرد المجتهدين والمراجع الإيرانيين ضد الدولة وحتى ضد الشاه تتركز في اصفهان، وضد حاكمها، وطرد أو اجبار حكام اصفهان على التراجع أمام سلطة الشفتي المدعومة بحشود أهالي المدينة. ونجاح الشفتي وحلفائه ومن بينهم اللوتية في توسع نشاطهم. ففي جنح الليل أخذ اللوتية بالخروج من مخابئهم لينغمسوا في أعمال قتل ونهب واغتصاب من دون أن تطالهم العقوبة " وفي اليوم التالي يغسلون سيوفهم، المضرجة باللون الأحمر من دماء المسلمين، بخزانات مياه المساجد".

وفي تلك الضروف، قاد محمد شاه- شاه إيران 1808، 1848- جيشه بنفسه متوجهاً إلى اصفهان، والتقى بأبرز معارضيه، محمد باقر الشفتي.. إلا إن الأخير بقي محافظاً على موقف التغطرس والاحتقار تجاه شاه إيران، وقد أكد أحد الشهود العيان ذلك؛ فقد امتطى الشفتي بغلاً، وذهب إلى قصر هفت دشت، حيث اتخذ الشاه منه محلاً لإقامته. وتجمهر الجنود ورجال حاشية القصر حول شخصيته المقدسة، إلا إن حشد جماهير المدينة كان كثيفاً، ومع ذلك لم يكونوا قادرين على الوصول إليه ولهذا اكتفوا بتقبيل حوافر بغله.[3]

إلا فاعلية وحيوية حاكم اصفهان من بعد، استطاع تحطيم سطوة اللوتية ولم يعد حي بيد آباد الذي يسكن فيه الشفتي آمناً، فقد أمر الشاه بإعدام عدد كبير من اللوتية دون محاكمة وإعدام زعيمهم، وبعد فترة قصيرة مات الشفتي، وهكذا انتهت سيرته التي فضل مصالحه الشخصية بذاتها أكبر من حرصه على أداء الفرائض الدينية، وتغاضيه عن إراقة الدماء وأعمال النهب. وهذه هي قدرة المراجع في اثارة العواطف الدينية لأغراض شخصية بل وحتى على خارج الشرع نفسه وعن كل شرع أو قانون أو عرف.

وفي كربلاء يذكر فريز[4] خلال تجواله في العراق ..من الحقائق التي تدل على ضعف الحكومة التركية التام في هذه الولاية (كربلاء) إن جميع العتبات التي لها قدسية خاصة تقريباً قد جُعلت ملاذاً لشر الناس في المجتمع وأكثرهم تفاهة، ولا تزال على وضعها هذا حتى الآن. ومن المحتمل أن يكون هذا قد نشأ عن طبيعة الحماية التي تقدمها هذه الأماكن للناس من دون تفريق بينهم، ولأن هذه الحماية يستغلها في الدرجة الأولى أسوء الخارجين على القانون من الناس بطبيعة الحال. ولكنه على كلٍ امتياز لا يسمح "المتولي"، ورجال الدين أو خدم الحضرة، للسلطات الزمنية أن تتعرض له بأي حجة كانت.

ويذكر علي الوردي[5] عن كاتب مجهول.. إن كربلاء كانت عاصية على وزراء بغداد.. وكان بها السيد ابراهيم الزعفراني- الذي اختلف على أصوله أكان اعجمياً أو عربياً- وترأس على أوباشها وسفهائها وأطاعه أراذل البلد المفسدون وهم يتولون الحرب... وكان كل من يعمل مفسدة في العراق أو يأكل أموال الناس يذهب إلى كربلاء ويستجير بهؤلاء حتى اجتمع عندهم مقدار عشرة آلاف مقاتل من أجلاف الناس.

ونعود لفريز.. كما هو الحال في محلة الشيخ عبد القادر ببغداد نفسها. وقد حصل هذا الوضع كذلك في النجف وكربلاء معاً، ولكن بمقياس أوسع وحالة أسوء بكثير.. وهؤلاء لا يفعلون ما يريدون فحسب، بل كانوا أيضاً يطلبون من الزوار الذين يأتون لزيارة العتبات المقدسة الإذعان لأوحش الطلبات وأبعدها عن المألوف والمعقول، وفي حالة عدم الانصياع للطلبات كانوا ينهبون أمتعتهم ويجردونهم حتى من ملابسهم، كما يسلبونهم زوجاتهم وبناتهم في بعض الأحايين.. وهم يذهبون في فسادهم وخلاعتهم حتى إلى حد إنهم، حينما يعلمون إن أحد الزوار يصطحب معه زوجة جميلة أو أختاً حسناء، يبعثون ليأتون بها إليهم. وحينما يرفض ذلك يعمدون إلى سرقتها منه بحيلة من الحيل أو إلى اغتصابها بالقوة. وكثيراً ما كان يحدث هناك أن تفقد زوجات بعض الناس على هذه الشاكلة لمدة أسبوع أو أكثر.

هذا، أو حينذاك[6] عندما ضعفت سلطة الدولة العثمانية في العهد المملوكي وما بعده حاول أعيان الشيعة المحليون أن يحلوا محل السلطة العثمانية في احتكار السيطرة على موارد المدينة، إلا إنهم افتقروا إلى القوة المسلحة.. وكانت مصادر ثروة كربلاء متأتية من الزيارة والتجارة.. ولهذا اعتمد أعيان الشيعة على طبقة من الخدم والمستخدمين من بين شريحة قطاع الطرق.










[1] - كتاب العثمانيون وشيعة العراق، كربلاء انموذجا، عام 1843.

[2]- يذكرنا بعمار الحكيم وحيازته على الجادرية، ومناطق اخرى في بغداد.

[3]- مثلما قبل اتباع مقتدى آثر اطارات سيارته الجكسارة.

[4] - رحلة فيرز للعراق عام 1834، ترجمة جعفر الخياط.

[5] - علي الوردي لمحات اجتماعية، الجزء الثاني.

[6] - العثمانيون وشيعة العراق.