معركة ايديولوجية من انماط العالم الثالث



مظهر محمد صالح
2024 / 8 / 20

تعيش بلادنا صراعاً تشريعياً هو اقرب الى فكرة الصراع الفكري القانوني وهو نمط من الصراعات التي تنشأ حول القوانين والتشريعات وتفسيرها وتطبيقها. اذ كثيرا ما يرتبط ذلك الصراع بالجدل حول المبادئ القانونية والحقوق والعدالة ، وتحديدا مايدري اليوم في بلادنا من تنازع حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي رقم 188 لسنة 1959.
فمظاهر ذلك التنازع القانوني جاءت لتصب في تعديل قضايا امست تتعلق بالحقوق المدنية وعلاقة القانون بالأخلاق، حتى بلغ الجدل الذي الهب الراي العام كله ليخرج عن فكرة اهمية التعديل في معالجة مشكلات اجتماعية واسرية تتناسب وروح العصر وتلبي رغبة المجتمع المتعدد الاثنيات والطوائف والمذاهب والتفسيرات ،حتى ضمن المذهب الواحد ، ليصبح نزاعاً اديولوجياً ودستورياً .
فقانون الاحوال الشخصية النافذ والذهاب الى تعديله جذريا بعد خمسة وستين عاماً من الزمن التطبيقي والقانوني ، قد فتح الباب لمعركة فكرية لم يسبق لها مثيل منذ العام 1958 وقيام النظام السياسي الجمهوري .
فما يحصل اليوم في بلادنا والتي هي بأمس الحاجة الى الاستقرار والانسجام المجتمعي ، قد اخذ يؤسس لمسارات تتجه نحو حافات التصلب العقائديّ والسياسي، وهي تمثل معركة ايديولوجية جديدة في العراق الديمقراطي والذي هو في غنى عنها تماماً .
لذا بات من الضروري ان يقدم تعديل قانون الاحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 من الفضاء القانوني والسلطة التنفيذية للعراق وليس من الفضاء السياسي الإديولوجي.
اذ كثيرا ما شهد التاريخ السياسي والاجتماعي للبلدان هكذا صراعات فكرية تظللها معركة طاحنة غامضة النتائج تسمى بالمعارك الاديولوجية ،
وهي معارك البنية الفوقية التي تتخطى احتياجات البناء التحتي الاجتماعي التعددي المتنوع .
فالمعركة الأيديولوجية هي صراع فكري ونظري بين مجموعات أو أفراد يدافعون عن معتقدات أو أفكار مختلفة، تكون غالباً متعلقة بمفاهيم سياسية واجتماعية واقتصادية أو دينية. فاذ كانت الأيديولوجيات هي أنظمة من الأفكار والمعتقدات التي تؤثر على كيف يفهم الناس العالم وكيف يوجهون سلوكهم واتجاهاتهم ،فان المعارك الاديولوجية ماهي الا تعبير عن التطاحن السياسي في البنى الفوقية
، كالصراع بين الأيديولوجيات الليبرالية والمحافظة أو بين الاشتراكية والرأسمالية.
واليوم يأخذ الصراع الإديولوجي في العراق نمطاً مختلفا، قوامه الصراع بين الدين وتفسير حقوق الإنسان، حيث يتصارع الناس حول مفاهيم شتى ، مثل الحرية الشخصية مقابل الأمن المجتمعي والاسري لياتي في مقدماتها قانون الاحوال الشخصية .
وهنا يرى الكاتب والمفكر السياسي ابراهيم العبادي في مقال مهم عنوانه : معارك الفكر والسياسة في العراق ! قائلاً (( …. ان انحراف الحوارات والمساجلات عن اصل الموضوع ، وانفتاح ابواب المعركة على مصراعيها بين التيار الديني والتيار اللاديني ،يؤشر الى سوء فهم عميق بين الاطراف المختلفة ورغبة في تصفية الحسابات على حساب اهتمامات اجتماعية واقتصادية واخرى أمنية ،ماتزال تشكل اولويات وهموم شعبية ضاغطة ،ولذلك ينظر الى مايجري من صراعات ، على انها معركة في توقيت خاطيء وعودة الى زمن مضى ،كان ممكنا الاستفادة من دروسه والاحتراز من تكرار فصوله ،فمعظم المعارك من هذا النوع تستنزف القوى والطاقات الاجتماعية ولا تحقق مكاسب ذات مغزى في معركة التحديث والعصرنة وتجديد جوانب التراث الحية وتوظيفها في مشروع النهضة .العراق يحتاج الى مرحلة تهدئة طويلة بين التيارات والقوى السياسية والحزبية والاجتماعية ليتغلب على تهديدات خطيرة ،في مقدمتها بتقديري -كما يقول الكاتب - التهديد الذي تشكله العقلية الريعية الاستحواذية، وثقافة الفساد المشرعن ،والتخلف الاجتماعي الذي يعيق تطوير وتنمية البلاد، ووقف زحف جيوش العاطلين ،علاوة على الكسل والبلادة الادارية ؟ والثقافة المانعة من تطوير وعقلنة قيم المجتمع نحو الانتاج والادخار والظفر بمعركة الحضارة ….. ،فهذه هي القنبلة الموقوتة التي تهدد حاضر البلاد ومستقبلها )).
في حين يظهر الكاتب والمفكر الدكتور فارس نظمي رؤيته في مقال مماثل تناول عنوانه : تهميشُ القضاء وتفكيكُ العقل الحقوقي للدولة وتقويضُ الهوية الجامعة
قائلا((…بدءاً، ولكي نبتعد عن الفهم الطوباوي لكيفية انبثاق القوانين، فإن تشريع أي قانون أساسي (أي مكمّل للدستور لكونه يتعلق بممارسة السلطة بنطاقها الواسع، كقوانين: الأحوال الشخصية، والانتخابات، والأحزاب، وتنظيم الحريات، والموازنات المالية، وتنظيم القضاء، والأمن والدفاع، وغيرها) إنما هو تعبير واقعي ومباشر عن أيديولوجيا مرحلة تاريخية معينة، وليس تعبيراً ذاتياً عن مزاج هذا الحاكم أو تلك السلطة)).
وهكذا من وجهة نظرنا فان المعركة الاديولوجية الراهنة في بلادنا قد اخذت مستويات متعددة أفقياً وعمودياً من خلال الخطابات العامة و المناظرات الفكرية والإعلام، أو حتى التظاهرات وما شابها من اعتداءات لاتمثل روح الديمقراطية.
نحن بحاجة الى اصحاب (الحل والعقد ) ممن يمثلهم من مجموعة العلماء والفقهاء في القانون وقادة المجتمع الذين يُعتمد عليهم في توفير المناخ التشريعي الملائم لتتخذ القرارات في ضوء الشرعية الدستورية الكبرى التي توافق الجميع،ذلك لتجنيب بلادنا عثرات قد تؤدي إلى مشكلات اجتماعية وسياسية واسعة ومستدامة و مولدة لنزاعات لاتنتهي ولا تحمد عقباها في استقرار بلادنا على المدى البعيد .