نساء البهجة



امال قرامي
2024 / 9 / 3



تُتّهم النساء بأنّهنّ "نكديات"، يفتعلن المشاكل ويرغبن في تعكيرِ صفو مزاج الرجال الذين يُصوَّرون على أنّهم يصنعون البهجة والسرور أينما حلّوا. ولكن ما النكد؟ وما معنى البهجة؟ وكيف يفهم كلّ من المرأة والرجل السعادة؟

يُنظر إلى استفسارِ النساء عن مسائل تتعلّق بالسلوك والتدبير، ونقدهن تناقض الخطاب الذكوري وتهافته على أنّه نكد، لأنّ الرجل عاقل بالفطرة و"كامل"، ومن ثمّة فإنّه لا يجب أن يُوضع تحت المجهر، فيُساءل. أمّا المرأة فهي ناقصة وتتطلّب مُراقبة و"إصلاحًا للاعوجاج" وتأديبًا، حتى تكفّ عن ممارسةِ "النكد". ولكنّ دراسة التاريخ الاجتماعي وتحليل التقاليد والعادات وتفكيك دلالاتِ الطقوس اليوميّة وغيرها من الممارسات الاجتماعيّة تثبت أنّ المرأة مثلها مثل الرجل، تطمحُ إلى نيلِ نصيبٍ من البهجة والسعادة، ولذا تولي النسويات أهميّة كبرى لرصد مميّزات الحياة اليوميّة للنساء وتحليل أشكال بحثهن عن السعادة كما يفهمنها.

إنّ النبشَ في تجارب النساء وفنون العيش لديهنّ وأشكال التفريج عن الكرب هو حفظ للذاكرة النسائية وردّ اعتبارٍ لنساءٍ اخترن الصمود بما تيسّر لديهن من أدوات بسيطة. كما أنّه محاولة لأرشفةِ تاريخ الجدّات والأمّهات اللواتي حاولن على قدر استطاعتهن، كسر رتابة اليومي بالبحث عن طرائق للتسليّة والتخفيف من أعبائهن والترويح عن النفوس من خلال إقامة مجالس النساء. تجتمع هؤلاء مرّة في كلّ شهر ليتجاذبن الحديث ويسردن المُلح والنوادر ويستمتعن بما طاب ولذّ من الطعام، ويتباهين بأجمل ما لديهن من الثياب والزينة فتعلوا أصواتهن وتنتشر أهازيجهن وأغانيهن.

المرأة مثلها مثل الرجل، تطمح إلى نيلِ نصيبٍ من البهجة والسعادة

هي أزمنة تسرقها النساء من أجل العناية بأنفسهن وتحقيق مُجتمعيّتهن. وما السعادة سوى لحظات يقتنصنها من أجل استعادة الضحك والإحساس بالفرح والبهجة، فيتسنّى لهنّ بعد ذلك الاستمرار في تحمّل الأعباء التي فُرِضتْ عليهن فجعلتهن في خدمةِ الآخرين، يقمن برعاية الجميع على حساب رعاية الذات. فقد حدّد المجتمع أدوار النساء وربطها بمجموعةٍ من القيم كالصبر والإيثار والتضحية والتفاني في خدمة الآخرين، ومارس تأثيم كلّ امرأة لا تمتثل لهذه الأدوار والمعايير.

تطحنُ الرأسماليّة النساء والرجال فتحوّل الجميع إلى أدواتٍ للعمل ثمّ تستغني عنهم متّى تجاوزوا سنَّ الإنتاج والعطاء. ويتجاهل المجتمع المسنّات، إذ لا حقّ لهن في البهجة، غاية ما يُطلب منهن القيام به، استكمال أداء واجب الرعاية، أي الاهتمام بالأحفاد أو القرار في بيوتهن، إذ لا يليق بمن تجاوزت سنّ الستين (الحاجة والعجوز...) إلا الصلاة على النبيّ. وكلّما خرجت الواحدة عن هذا المسار اتُّهمت بأنّها عجوز تتصابى، وبدل أن تستقبل الموت والفناء تتشبّث بالحياة.

ولكن من النساء اليوم فئة أدّت واجباتها في الرعاية والخدمة والعمل والكدّ والمكابدة ووعت في نهاية المطاف، بأنّها فرّطت في أبسط حقوقها: أن تكون سعيدة. ولذلك نرى اليوم، نساء يُصمّمن على أخذ حقهنّ في الحياة ونصيب من البهجة وفق المتاح، والممكن اقتصاديًّا وصحيًّا.

إنّهنّ نساء البهجة، عاشقات الحياة رغم جحود المجتمع وقسوته عليهن، يعملن على تنظيم أوقاتهن وتدبير اقتصاد بيوتهن، فيخصّصن نصيبًا للمرح، ويجتمعن مرّة في الشهر في رحلة. يقصدن البحر تارة، ويجبن البلاد، طولًا وعرضًا، طورًا آخر، مُستمتعات بجمال الطبيعة. يتبادلن أطراف الحديث حول ما يُسعدهن، ويُعاتبن كلّ من تفتح دفاتر الوجع والفقد والألم والشقاء والتعاسة، فلا يقبلن إلا تقديم استشارات أو وصفات للعناية بالذات. من قال إنّ النساء لا يعرفن صنع البهجة ويعشقن النكد؟

لقد أثبتت سارة أحمد أنّ النسوية ليست مساحة للنضال السياسي فقط، بل هي طريقة تربطنا بالعالم، وتفسّر كيفية ارتباطنا به. فأن تصبحي نسوية معناه أن يعزلك الآخرون عن السعادة كما يتصوّرونها، وأن تتحوّلي في نظرهم، إلى امرأةٍ "نكدية"، ولكنّك في المقابل تستثمرين هذه العزلة لبناء ذاتك وتنميّة قدراتك ومعارفك، فتختاري أن تكوني نسوية قاتلة للبهجة.

أن تكوني نسويّة قاتلة للبهجة معناه أن تكوني رافضة للمعايير الاجتماعية التي وضعها المجتمع الذكوري ليؤبّد خضوعك وطاعتك، معناه أن ترفضي البهجة المصطنعة والمفروضة عليك قسرًا، معناه أن ترفضي التظاهر بالسعادة باعتبارها نظامًا خطّه الذكوريون ليحقّقوا امتيازاتهم. قاتلاتُ البهجة، يقتلن بهجة المجتمع الذكوري الذي جعل النساء يُظهرن السعادة في مواقف تُشعرهنّ بالتعاسة والبؤس والقهر.

فتحيّة لنساء البهجة وبنات البهجة (عنوان أغنية الجزائري رابح درياسة) اللواتي تعلّمن صناعة البهجة واقتناص الفرص للعبِّ من مباهج الحياة حتى يستطعن الصمود، ولا يكنّ سريعات الانفصام.