حول -التعديل- او بالاحرى التخريب! المقترح لقانون الاحوال الشخصية 188 لسنة 1959



شيرين عبدالله
2024 / 9 / 8

في سياق أستمرار هجماتها على حقوق النساء والمضطهدين، و وسط السلسلة اللا متناهية من الأزمات الخانقة والمتكررة التي تمر بها البلاد منذ مطلع القرن، تواصل السلطات في العراق أمرار سياساتها وقوانينها الذكورية والرجعية، فكانت آخر بدعة لها هي ما يسمونه ب "التعديل" المقترح لقانون الاحوال الشخصية 188 لسنة 1959، هذا القانون الذي يُعد، بالرغم من بعض البنود الرجعية فيه، احد اكثر مثيلاته تقدماً في المنطقة.

أهم بنود هذا التعديل الذي اصبح محل جدل واسع:
1- شرعنة تزويج البنات من عمر 9 سنة.
2- نفقة الاب على الاطفال بشرط تمتع الرجل وبخلافها تنقطع النفقة.
3- لا ارث للبنت في العقارات.
4- الغاء عقوبة الزواج خارج المحكمة والاكتفاء بالعقد الشرعي وبضمنها العقود الموقتة.
5- حق الابن او البنت في الحضانة واختيار السكن من عمر 7 سنوات.
6- تسقط الحضانة عن الام في حال زواجها، برضائها او عدم رضائها.

مشروع القانون المقترح يشكل تحديا خطرا لنساء العراق والجماهير الكادحة، و بداية لدخول العراق في حقبة تاريخية مظلمة يصعب الخروج منها الا بانتفاضة جماهيرية عارمة تقلب كفة الميزان. وان افلح البرلمان في تطبيقه، سوف يضرب عرض الحائط كامل ما أكتسبته نساء العراق من الحقوق، بنضالاتهن طوال عقود من الزمن، وستقع آثاره الكارثية الرجعية الذكورية علينا وعلى أجيالنا المتلاحقة.
فهي تمهد الارضية لمجتمع أبوي و طائفي ومنقسم ومستقطب طبقياً إلى أقصى الدرجات، فيه إغتصاب الطفلات وسرقة طفولتهن منهن متاح لا بل ويهنّأ المغتصِب، بلد يُحرم نصف مواطنيه من التعلم والعمل ويشرعن لعبوديتهن، بلد يسوده الجهل والأمية وتنتعش فيه الخرافة والمعتقدات البالية والشعوذة محل العلم والتطور، بلد (الرجال قوامون على النساء)، بلد يسمح لنصف مواطنيه بأستعباد النصف الآخر بأسم الدين والمذهب، ويشرّع لأمتلاك عدد من العبيد (الزوجات) لخدمة المالك ورغباته المكبوتة والمريضة، بلد يسوده الفقر (بكل معانيه) ولا يؤرق عيون من هم في السلطة كون ربع المواطنين (10 ملايين من مجموع 42 مليون) يعيشون تحت خط الفقر لأن الفقر كما يرونه هو "قضاء وقدر" و "من مشيئة الله" وليس نتيجة سياساتهم وفسادهم وسوء أدارتهم للبلد والتردي الممنهج للخدمات العمومية كالصحة والتعليم والسكن وأنتشار البطالة، بلد تخنق فيه أصوات الملايين من الشابات المقعَدات في البيوت، المنهكات تحت وطأة العمل المنزلي وتربية الأطفال والمسنّين في العائلة و خدمة الزوج (المعيل!)، بيوت تُرتكب خلف جدرانها أبشع جرائم العنف الجنسي والجسدي والنفسي بحق النساء. في هذا البلد لا يُسجّل الزواج رسمياً في المحاكم فحتى إن فكّرت الفتاة في رفع قضيتها فلا تجد لها من سامع. بلد يُختطف فيه الأطفال من أحضان أمهاتهم وأمهات يُختطف أطفالهنّ منهنّ لا لذنب إلّا لكونهن أناث في مجتمع ذكوري رجعي حتى النخاع. أناث هذا المجتمع يُستلب حقوقهن في الميراث و تُحرم من الأستقلال المالي و لا تملك حق القرار في أختيارات حياتها وحياة عائلتها وحتى في جسدها.
التعديلات المقترحة تقود البلد إلى الرجوع الى الطائفية المقيتة و هي خطوة نحو تقسيم وتفتيت النسيج المجتمعي في العراق.
كما أنها خطوة خطيرة نحو تعميق اللامساواة والتمييز ليس فقط على أساس المذهب والنوع، بل كذلك على أساس الطبقة، إذ تفرض على النساء حالة التبعية و القبول بوضع اجتماعي أدنى ككائنات بحاجة الى الأعالة من قبل، وعبئا على، الرجال، وليس كشركاء حياة مستقلون و متساوون في الحقوق والواجبات والمكانة الاجتماعية.
إذا كان هذا وضع نصف المجتمع فهل يُعقل أن يكون النصف الثاني متمتعاً بالطمأنينة وراحة البال والحرية التامة؟ بالطبع كلّا. فكل هذا عبء كبير على الرجال وصحتهم البدنية والنفسية. الحقيقة هي أنه في هذا المجتمع الذكوري الذي يبدو فيه الرجال في موقع القوة و الهيمنة يحصر الرجل في أنماط قمعية ضيقة للرجولة والتنافس والتخلي عن أنسانيتهم. فالنتيجة هي مجتمع مريض بكافة أطيافه.

نفاق صارخ!
كل ما ورد أعلاه ليس خفياً على سياسيي العراق وصنّاع القرار من الاحزاب الدينية والقومية، فهم على دراية تامة بالمضاعفات الأجتماعية لسياساتهم وقوانينهم، ولكنهم بالرغم من ذلك مصرّون على تنفيذها.
أحزاب الأسلام السياسي الشيعي يتذرّعون بقلقهم من تعارض القانون مع الفقه الشيعي وضرورة "إنقاذ الطائفة الشيعية من ارتكاب الذنوب" حسب تعبير وزير العدل السابق في 2014. ولكن هل يمكن تفسير هجمة رجعية شرسة كهذه فقط برغبة هذا الحزب او ذاك في الأحتفاظ بالهوية الطائفية و تجنب "الذنوب"؟ علما بأن هذه الاحزاب والتيارات هي في السلطة وغارقة في الفساد والذنوب الارضية! من دون أي قلق، وتتقاسم بين بعضها كافة مؤسسات وموارد الدولة وتتحكم بكلّ مشاريعها.
التعديل المقترح تعبير عن نفاق واضح و وسيلة لتقسيم الامتيازات والمراتب في المجتمع، و لكي نفهم النفاق الكامن وراء مشروع التعديل هذا، يمكننا الرجوع إلى ما تقوله الباحثة المغربية فاطمة المرنيسي في كتابها (ما وراء الحجاب)، فهي تشير الى "الكيفية التي يصمم المجتمع الاسلامي وفقها الفضاء الجنسي وكيف ينشر في الفضاء رؤية نوعية لنشاط المراة الجنسي"، والى أن "الاسلام يشكل، إضافة الى أمور اخرى، رؤية مادية غامرة للعالم، ومكانه ليس السماوات بقدر ما هو الفضاء الأرضي والسلطة على الأرض، والوصول الى كافة الملذات الدنيوية الصرفة بما في ذلك الصحة والجنس والسلطة".
نرى أن ظاهر القضية هو إنقاذ مذهب معين من إرتكاب "الذنوب" و حجج "سماوية" لا صلة لها بالحياة الواقعية والأمور المادية، ولكن النتيجة الواقعية على الفضاء الأرضي للتعديل هو ضمان كافة الأمتيازات والملذات الدنيوية للرجال و حرمان النساء منها كلها.
ولكن هذا ليس كل ما في الامر، هذا التصميم للمجتمع ينفي وجود نصف المجتمع (النساء) وبهذا يسهل على السلطة ورجالها التحكم بالنصف الثاني وهم (الرجال)، الذين يبدون في الظاهر بانهم مستفيدون جميعا بالتساوي من هذا الوضع. ولكن لا ننسى ان العراق مجتمع طبقي ضمن نظام عالمي رأسمالي، وليس كل الرجال فيه متساوون في التمتع بالسلطة والأمتيازات الدنيوية. فالرجال من الطبقات العاملة والكادحة لا يملكون ما يمكّنهم من إعالة حتى زوجة واحدة ناهيك عن أربعة زوجات ودفع نفقات الأطفال أو اقتناء الزواج الموقت، وليس لديهم ما يمكنهم التنازع عليه مع أحد من الميراث والعقارات، فهم ليس مرغوب فيهم حتى في ما يمكن تسميته بسوق الزواج، وحتى أن بناتهم هن الاكثر عرضة للزواج المبكر و خاضعات لرغبات الرجال من الطبقات الثرية، ربما يرغب احدهم في الزواج من ابنته في التاسعة من العمر و رفع شيء من الكاهل عنهم. وهذا يعني أن التعديل ليس في مصلحة جميع الرجال أيضا بينما حسب أنتمائهم الطبقي.

لماذا الان؟
من المعلوم أن العراق يعيش في دوامة لا متناهية من الأزمات الكبرى منذ الأحتلال الامريكي ل 2003 والذي أتى على خلفية عقود متتالية من أستبداد وحروب النظام البعثي الفاشي السابق والحصار الاقتصادي لأمريكا والغرب على العراق وحروب الوكالة والتدخلات المتكررة للدول والقوى الاقليمية في البلد ومأسي داعش ... وغيرها.
كان مجيء الحاكم الامريكي بول بريمر للعراق في 2003 وفرضه رزمة من السياسات الاقتصادية والتي أتبعتها الحكومات المتتالية لحد اليوم هو برنامج ممنهج لضمان الرضوخ لشروط صندوق النقد والبنك الدوليين بهدف إزالة العوائق أمام رأسمالية السوق الحر في العراق وتنفيذ الخصخصة وأرساء السياسات الرأسمالية النيوليبرالية. أي ذلك النمط وتلك السياسات التي تعتبر أكبر هجوم على معيشة ورفاهية البروليتاريا العالمية.
وبما أن العراق وأزماته لا يتجزء عن أزمات الرأسمال العالمي فأن السياسات المتبعة لا بد وأن تستجيب لمتطلبات وشروط هذا النطام العالمي، التي تلعب أحزاب السلطة والنطام الأسلامي والقومي في العراق دور الراعي لمصالحه.
والمعلوم أيضا هو الراسمالية ترى في النساء مصدراً رخيصا للعمالة يمكن أستغلاله بسهولة للأستيلاء على الأرباح والأستغناء عنه بسهولة بحسب حاجة السوق. ففي أوقات الازمات تلجأ الراسمالية إلى سياسات التقشّف و تقليص الصرف على الخدمات العامة و تسريح أعداد غفيرة من العمال و تكون النساء من أول ضحايا هذه السياسات.
ومن جهة أخرى نرى أنعكاس الازمات العالمية في العقود الاخيرة كالحروب والكوارث البيئية و تفاقم الفقر واللامساواة وغلاء تكاليف المعيشة وتزامنها مع التراجع المخيف في حقوق النساء من أشتداد العنف المنزلي اثناء جائحة كوفيد 19 و رجوع الطالبان للحكم في أفغانستان و منع النساء من التعليم والعمل ومؤخراً حتى منعهن من التكلم خارج المنزل، و القمع الدموي للنساء في أيران و الهجوم على الحقوق الأنجابية للنساء في قضية رو و وايد وغيرها.. فهذا كله ليس من باب الصدفة، بل دلائل على أن قمع النساء وسلب حقوقهن مرتبط بمسارات الرأسمالية وأداة من أدوات الراسمالية لمعالجة أزماتها الكبرى.
في العراق حين ننظر إلى مدى السخط الجماهيري وغضب الناس من جراء الفساد الاداري ومعاناتهم من أنعدام خدمات الصحة والتعليم والكهرباء والماء و السكن والفقر والبطالة و غلاء تكاليف العيش.. نرى كيف أن هذا الترتيب الذي يقترحونه للمجتمع، وذلك بحرمان نصفه من الأمتيازات والحقوق المادية والمعنوية، ليس وسيلة لصرف الأنظار عن الأزمات التي تمر بها البلاد كما يعتقد البعض، بل هو وسيلة واقعية بيدهم لمساعدتهم على تجاوز أزماتهم والأدامة بسلطتهم وسطوتهم على موارد الدولة و مشاريعها وترسيخ سياسات الرأسمالية النيوليبرالية في خدمة النظام الرأسمالي محلياً وأقليمياً وعالمياً.
كنسويات تحرريات، لا يمكننا السكوت على إمرار قوانين تعسفية كهذه ضد النساء في العراق، ولا بد من الوقوف بثبات و عزم ضد هذه التعديلات المقترحة، حلفاؤنا في هذا المقطع النضالي الحاسم هي الملايين من النساء والتحرريين والطبقة العاملة من حول العالم الذين يعانون يوميا من التمييز واللامساواة.
7.9.2024