بنات عائلة (شاهين)



نور فهمي
2024 / 9 / 27

إن الفتاة غالبا ما ترث جمال وذكاء أمها، ولكن هل ترث أيضا عقدتها ؟!
إن لكل منا حكاية تتلخص فى هذه الكلمة.."عقدة".
عقدة لا نستطيع أبدا الخلاص منها..بسبب ارتباطها الوثيق بأحد الوالدين!!
إنهم أكثر تأثيرا من غيرهم فى تشكيلنا ..مهما تبدل العالم من حولنا أو تغير..مهما شاخت أجسادنا ..تظل نواقص الطفولة نشطة، حية فينا، بل وتزداد حدتها مع تقدمنا فى العمر. يمكنك أن ترى كهلا لا يستطيع نسيان أول صفعة تلقاها من أمه، أو أول جرح تسبب فيه أبوه!!
استطاعت المخرجة (ماريان خورى) فى فيلمها التسجيلى(احكيلى) فهم تاريخ أسرتها ودوافع والدتها وجدتها وبالتالى تفسير ما يحدث لها فى حاضرها وما يدور فى عقلها وقلبها..بل ومع ابنتها (سارة).
حاولت أن تعالج هذا الأمر بالنقاس معها، والنبش فى الماضى، والعثور بين الذكريات على أسباب الغصة الدائمة التى تشعر بها، ومن خلال زاوية للرؤية، لم تكن تنتبه لها من قبل!!
عائلة كانت نساؤها أقوى من رجالها، وأشد سطوة وقدرة وحيلة وسيطرة!
عائلة فنية بامتياز..يقودها أحيانا الجنون والشغف، وأحيانا أخرى، حكمة تفرضها قوانين المجتمع!!
قصة نساء تحررن من كل شئ، إلا عقدتهن!
فكل واحدة فيهن تحمل عبئا يدمي قلبها..والسبب دائما وأبدا
"الأم"
تاريخ يتكرر وكأن كل واحدة منهن، تتأمل ذاتها فى المرآة..وتعيد اللقطات مرات ومرات..لعلها تقطع أوصال الماضى المرهون بعقظة من سبقوها!
إن القيد الوحيد هو قيد القلب المثقل بهمومه!
لا مجتمع يمنع، ولا أب يتسلط..البنات يذهبن للتعلم فى الخارج..يعشن وحدهن..يجربن كل شئ. بنات مسؤولات، لا خوف عليهن، ولا شك فى قدراتهن على المواجهة والتحدى.
من أين جاءت إذن فكرة هذا الفيلم؟! بل لما بدأت رحلة التأمل والنبش فى الذكريات؟!
حينما وجدت (ماريان) نفسها فى مواجهة مباشرة مع أسئلة ابنتها (سارة) تأملت حالها وتاريخ أسرتها خاصة والدتها وعلاقتها بها، ومدى تأثير ذلك عليها، ومن ثم على ابنتها الصغيرة!
تبدأ فى الإفصاح عن أول خيط تسبب فى عقدتها وهو أن والدتها(ايريس)، لم تكن ترغب فى إنجابها، بل حاولت أن تجهضها، ومنعتها شقيقة زوجها فى اللحظات الأخيرة!!
لم تكن (ايريس) تريد بنتا..بل كانت دائما تفضل البنين!
والجنين دائما يشعر بأمه..يتصل بها وبأفكارها وبقلبها ومشاعرها..فالغصة التى ظلت (ماريان) فترة طويلة لا تدرى سببها، بدأ يتجلى مصدرها رويدا رويدا ..
وتتساءل ونتساءل معها، عسى أن نعرف مكمن هذه الغصة وتبعاتها..
فيكفى أولا:
إحساسها بالأم التى لم تكن ترغب فى إنجابها من البداية!!
إحساس أنها طفلة غير مرحب بها، أو غير مرغوب فى وجودها!!
لطالما كانت (ايريس) قوية جدا وذكية وجريئة تدفع من حولها للوصول إلى أقصى درجة من درجات قدراتهم ومواهبهم بمن فى ذلك شقيقها المخرج الكبير (يوسف شاهين) رغم أنها لم تصل يوما إلى تقدير ذاتها، أو محاولة اكتشاف موهبتها، والعثور على حلمها الضائع وسط حلم أخيها الذى يتحقق أمام عينيها فى كل لحظة.
تزوجت زواج صالونات من رجل يكبرها بحوالى خمسة عشر عاما..كان يعشقها..ولكنها لم تقع فى حبه يوما.
كانت جريئة..مفعمة بالحياة.. تبحث دائما عن مواطن الشغف فيها. لم تكن سعيدة فى زواجها على الإطلاق..وكانت تمر بين الحين والآخر بنوبات اكتئاب حادة.
كانت تكره التقدم فى العمر مثلما وصف شقيقها المخرج فى الفيلم، ولذلك فى أواخر سنين حياتها استسلمت لدورة الزمن واذعنت للقدر المحتوم..على عكس والدتها التى ظلت مفعمة بالحب والحياة حتى النهاية..بل إنها كانت تهتم بتصفيف شعرها وطلاء أظافرها وكامل زينتها وهى فى الثمانين من عمرها!!
وهنا ترجع ماريان للوراء أكثر لمعرفة تاريخ جدتها والوصول لجوهر أزمتها!!
حيث عاشت والدة (ايريس وشاهين) بعقدة أزلية لم تخف وطئتها عليها قبل أن تجعل ابنتها تعانى من نفس المصير!!
فقد زوجوها من رجل يكبرها فى السن..رجل لم تكن تريده أو تشتهيه..وكان يوم زواجها، هو ذاته يوم نحيبها وتتويج قهرها للأبد!!
الغريب أنها كررت ذات المأساة مع ابنتها (ايريس) وكأنها تريد أن يشاركها أحد فى معاناتها!! وبدلا من إنقاذ ابنتها من نار عقدتها.. ألقتها فيها، لتتقاسم معها الأوجاع لاإراديا!!
تعتقد سارة_الحفيدة_ أن جدتها لم تكن مؤهلة للزواج أو للإنجاب ولم تكن صالحة له..لأنها كانت تهرب دائما من هذه الحياة باكتئابها المستمر..كأنها تعيش حياة مفروضة عليها..حياة لا تشبه روحها!!
يعيش الكثير منا أيضا حياة لا تشبهه، مثلما فعلت(ايريس)، فيظل يكمل طريقا رسمه آخرون..وتتراكم عقده وتتعقد حالته النفسية من سئ لأسوأ، فلا هو حقق حلما أراده الأب أو الأم، ولا هو حقق ما سعى لأجله أو حتى تمناه بينه وبين نفسه!!
ولكن (ايريس) كانت أكثر حكمة وسواء نفسي من والدتها،
فاستطاعت بشجاعة أن تكسر دائرة المعاناة، أو لنقل؛ قلصت حدتها قدر المستطاع، كى لا تنتقل لابنتها!
فجدة (ماريان) فرضت على ابنتها زواجا لا ترغب فيه، مثلما فرض عليها من قبل الزواج فى سن صغيرة!!
ولكن (ايريس) كانت أشجع وأكثر حكمة، فلم تكرر هذه الجريمة التى عايشت مساوئها، بل ساعدت ابنتها (ماريان)على الخلاص من زواجها الأول، لأنها لم تحتمل أن تراها تعيسة مثلها..محرومة من كل معالم الشغف!!
تعترف (ماريان) بأن العمل وحده استطاع أنقاذها من كل هذا العبث والفوضى، وأن فكرة امتلاك المال دائما ما تشعرها بالاستقلالية ومن ثم الكرامة، فهى حرة التصرف فى أى وقت، دون أن يمنعها أحد عن رغباتها ومتطلباتها.
ولكن الحياة الأسرية دائما ما تعترض هذا الطريق رغما عن أنوف الأمهات..فهي، ورغما عن تحققها المهنى والمادى، إلا أن ابنتها (سارة) تشتكى من أنها عاشت طفولتها محرومة من وجود أمها فى البيت..فكانت أمهات زملاءها يصحبهن من المدرسة فى موعد الانصراف، بينما تنتظرها الدادة وخلفها الكلب ليعودا بها إلى البيت!
ثم لا تجد أمها بعد ذلك فى انتظارها..بل أبيها!
فهل كان ذلك ثمن نجاح الأم فى مهنتها؟! أن تشعر ابنتها بفقد لن يعوضه سواها.. وهل لو تبدلت الأدوار ومكثت (ماريان) فى البيت تنتظر عودة ابنتها، بينما انشغل عنها أبيها، ستحل بذلك العقدة، أم يصبح مصدرها الأب وغيابه؟!
هل ترجع حدة هذا الشعور إلى أننا نعيش فى مجتمع ذكورى يؤمن دائما بأن الأم يجب أن تكون منبع ومصدر كل الاهتمام والحنان والرعاية دون سواها، ودون مشاركة الأب معها أو توكيله بنصف هذه المهمة ..فتتزن الأمور بذلك، ويصلح حال الأبناء؟!
هل نحن كأمهات نشعر دائما بالذنب حينما نولى حياتنا المهنية اهتمامنا؟! ونوجه وجوهنا شطر أحلامنا؟!
هل لو ظل الأبناء يشهدوا على مكوثنا الدائم بالمنزل دون عمل، سيخلق ذلك فيهم بذرة أمل أو رغبة نحو التحقق والنجاح؟!
إن الأطفال مرآة آباءهم وأمهاتهم، ويفعلون مايرونه منهم لا ما ينصحونهم به!!
فكيف يرون منا عكس ما نتمنى أن يصبحوا عليه؟!
كيف نحثهم على شئ ثم نفعل ضده؟!
ولما لا يشيد المجتمع إلا بازدواجيتنا؟!

إننا جميعا نعانى من عقد الطفولة،
ولكن لا يمتلك معظمنا جرأة الطرح على الملأ، ومحاولة تشريح آلامه جهارا أمام البشر..بل وتشريح آلام أسرته لكى يعثر على الحقيقة والمسبب الرئيسى لعقدته الأزلية.
معظمنا يكتم ما يوجعه..فيقهره ويمتد هذا الكبت لسلوك قهرى فى تعاملاته مع من حوله، خاصة أبنائه، فمنا من يسرف فى السلوك المعاكس للسلوك الذى نتجت عنه عقدته!
ومنا من يختار الحكايات والروايات ليغلف مأساته، دون وطء المجاهرة وتبعاتها!
أما المخرجة؛ فقد اختارت الطريق الأقصر للإلهام..اختارت أن تشرح عقدتها وعقدة أمها وجدتها بالمشاركة مع الجيل الجديد المتمثل فى ابنتها، وأن تعرضها على الملأ، عسى أن يجد الناس ضالتهم فيها، ويفكوا عقدتهم من خلال شخوص الفيلم وحكايات بطلاته.
نهجت (ماريان) فى هذا الفيلم الملهم نهج خالها المخرج الكبير(يوسف شاهين) _فى سلسة أفلام السيرة الذاتية_
حيث جسدت (الحقيقة) كما هى؛ بجمالها وقبحها؛ حتى وإن مست ضعفها الإنسانى، أو عقدة نقصها أو حتى العيوب التى يسعى المرء جاهدا لمحاولة إخفاءها عن باقى البشر..
وهنا يكمن مصدر الإلهام وصدق التأثير..فهم يجسدون آلامهم وموضع نواقصهم عن طريق حكاياتهم بل وأسرارهم الخاصة ..عسى أن
يوقفوا بذلك دائرة الألم القهرى،
والذى يورث، بلا رحمة،
من جيل إلى جيل!