مقامة التنوير و التعدد .



صباح حزمي الزهيري .
2024 / 10 / 16

مقامة التنوير والتعدد :

قال القاضي ابي مسعود: من كانت له زوجة واحدة لا يصلح للقضاء ولا الفصل بين الناس , وقال ابن حيان التوحيدي : أدركت قوم لا يجلسون بينهم من كانت له زوجة واحدة يحسبونهم من صغار الناس, وقال ابن خلدون : تبصرت في الأمم الهالكة فوجدت انهم اعتادوا أن تكون لهم زوجة واحدة, وقال الصاحب ابن عباد : أدركت أصحاب التراجم يقولون : مات فلان وكانت تحته فلانه وفلانه يذكرون زوجاته وعندما يذكرون من له زوجة واحده يقولون مات فلان وترك فوقه فلانه, وقال العابد ابن ميسار : لا تستقيم عبادة الرجل إذا كانت له خليلة واحدة ( أي زوجة واحدة), وقيل للمأمون بن هارون الرشيد : إن بالبصرة أقوام الرجل ما له إلا زوجة واحدة قال : ما هم برجال أما الرجال فهن زوجاتهم , يخالفون الفطرة والسنة, قيل لابن يونس المزني : لما اليهود والنصارى تركوا التعدد ( أي لهم زوجة واحدة ) قال : أولئك أقوام قد ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله , وقيل لأبي معروف الكرخي : ما الحكم في قوم زعموا الزهد فلا يتزوجون إلا واحدة قال : لا شيء أولئك مجانين فمهما بلغوا من الزهد لم يبلغوا معشار ابي بكر وعمر وعثمان وعلي , وسئل ابن فياض عن رجال لهم زوجة واحدة فقال : أولئك أموات يأكلون ويشربون ويتنفسون , ولما ولي ابن إسحاق النيسابوري الكرك منع العطايا عن من كانت له زوجة واحدة قالوا له ولما فعلت كذا ؟ قال : تلك أموال الله لا نعطيها للسفهاء, وقال ابن عطاء الله : عن أقوام لهم زوجة واحدة من لم يصير على سنة الأكابر( يقصد الرسول وصحبه) عددناه من الأصاغر , ولما ذهب تقي الدين المزني فقيها الي سمرقند قالوا له أن هؤلاء قوم الرجل فيهم له زوجة واحدة قال أولئك مسلمين (شك في دينهم ) فوعظهم واسترشدهم فما مر هلال وإلا وعقد لثلاث الآلاف منهم حتي صارت ما بكر أو ثيب الإ تزوجت, وقال ابن القيم: لا أري أن يأخذ برخصة عدم التعدد إلا ثلاث طالب علم , وعبد , وكثير السفر, قال الإمام الحصري : عندما ذكر الله الزواج ذكر مثني وثلاث ورباع ولم يبدأ بواحدة ثم مثنى وثلاث ورباع وترك الواحدة في الأخير لأنها من منقوصات كمال الرجال وهو الخوف .

في وقتنا ومجتمعاتنا هذه لم يعد مقبولا لدى النساء, بل يعد إهانة عظيمة للمرأة وسفحا لكرامتها وانتقاصا لقدرها بين أهلها وأقرانها , وهو مدعاة لشماتة أعدائها بها ولشفقة القريب والبعيد عليها , وهو فاطر لقلبها وكاسر لخاطرها ومورثها لأمراض النفس والجسد , فأي ظلم عظيم هذا الذي قد يقترفه الرجل بحق زوجته حين يعدد عليها دون رضاها؟ أي ظلم عظيم تسكت عنه هذه المرأة مقهورةً عليه بسيف الدين ورضا الزوج وبسيف الطلاق والأولاد؟

لقد استأذن أحد الشبان النبي في الزنا فما زجره الرسول وما اتهمه بتحدي شرع الله , ولقد استأذن سيدنا موسى ربه في رؤية وجهه الكريم فما نهاه ولا عاقبه على جرأته , ولقد طلب سيدنا ابراهيم من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى , فاستجاب له ليطمئن قلبه , وما خسف به الأرض أو أنزل عليه طيرا أبابيل , ألا يعلّمنا ذلك كله أن حرية الفكر قدس أقداس لا يجوز تحجيمه أو المساس به؟ فلم نر إذا من ينكر على النساء الخوض في أمر التعدد ؟ وما بالكم لو كان الخوض ليس في التعدد بل في الحجج التي أوردها الناس لتبريره , والتي لم ترد لا في سنة ولا في قرآن؟ أفلا يكون ذلك أدعى للأخذ والرد والتلين في القول أسوة برسول الله وبتعاليم كتاب الله؟

تونس هي الدولة العربية الوحيدة الذي تمنع تعدد الزوجات قانونيا , ونصت أول مدونة للأحوال الشخصية سنة 1956, أربعة أشهر بعد الاستقلال فقط , على أن "تعدد الزوجات ممنوع" , أكثر من هذا , تضمنت المدونة عقوبات جسدية ومالية في حق المخالفين . ( كل من تزوج وهو في حالة الزوجية, يعاقب بالسجن لمدة عام) , وقد ساهم في صياغة المدونة عدد من كبار رجال الدين في البلاد , مثل عميد جامعة الزيتونة محمد الطاهر بن عاشور , ومفتي الديار التونسية محمد عبد العزيز جعيط , لم يتردد هؤلاء الفقهاء الذين يحسبون على التيار الإصلاحي في الموافقة على مساعي الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة في إلغاء التعدد نهائيا , دون أن يعتبروا أنفسهم يناقضون أصلا من أصول الشريعة , وقد بنيا اجتهاداتهما على مبادئ الفقه المقاصدي الذي يتخذ من المقاصد والغايات الكبرى للدين أساسا لفهم الشريعة وتنزيل أحكامها.

لم يشجع القرآن على التعدد أبدا , بل كان مقرونا في موضع ذكره بالتخويف من عدم العدل , بينما وردت في آيات عديدة أخرى أحكام متعلقة بالعلاقة الزوجية من خطوبة وزواج وطلاق وغيرها دون ذكر التعدد أو التلميح له حتى , وهذه ليست دعوة إلى التحريم , فالتعدد مباح , ولكنها دعوة إلى عدم الادعاء بأن التعدد سلوك شجع عليه القرآن , بل هو واقع كان موجودا في مجتمع ماقبل الأسلام وقام القرآن بتقنينه , فالتعدد مباح , ولكن ليس كل مباح مأتي , بل يجب وزنه بميزان المصالح والمفاسد وإلا تحول الحلال إلى حرام إذا غلبت مفاسده على مصالحه , ويعلمنا القرآن في سورة يوسف أن الميل إلى الجنس الآخر أمر وارد يشترك فيه الجنسان , لذا لا يصح أن يكون مبررا للتعدد , بل تجب مجاهدته عند كل من الرجل والمرأة , ولعل الأمر عند الرجل أسهل وأيسر, فميله غالبا ميل جنسي قابل للكبح والفرملة خاصة مع وجود قنوات مشروعة لتصريفه , ولكن الأمر عند المرأة أصعب بسبب طبيعتها العاطفية المتحكمة , فميلها غالبا ميل عاطفي وصفه القرآن في سورة يوسف وصفا لطيفا ((قد شغفها حبا)) , والقلب عند المرأة على عكس الجسد عند الرجل لا يرضى إذا مال إلا بالمحبوب.