(المادة)..أجرأ أفلام مهرجان الجونة!



نور فهمي
2024 / 10 / 29

هل شعرت يوما برفض تام لجسدك..لعلامات التقدم فى العمر..للترهلات والتغيرات الطارئة عليه ؟!
هل حلمت يوما بالخروج منه، والدخول فى جسد آخر يشبه روحك وتطلعاتها وطموحاتها وامكاناتها الشابة؟!
وهل يصل بنا العلم يوما لأن تتم الولادة عبر 《ذواتنا》.. لا رحم أمهاتنا؟!
《اختراع 》يتيح لنا الحصول على نسخة متميزة نابضة بالحياة ..استثنائية ..مطورة من أنفسنا
فيتفتق "ظهرك" _بشق الأنفس_عن جسد جديد ..جسد بنفس حجمك تقريبا،ولكنه أفضل منك حالا ومظهرا!!
نسخة مصدرها انت ومآلها أيضا انت!
نعم هذا ما حدث مع نجمة برنامج الايروبكس الشهيرة فى فيلم(المادة) والتى جسدت دورها كلا من (ديمى مور) و(مارجريت كواللى).
استهل الفيلم بمشهد يستقبل النجمة بالحفاوة والتصفيق على بقعة أرض، محفور عليها اسمها، وتقف مرفوعة الرأس فى منتصفها، مصلوبة القامة، معتدة بذاتها وسط تصفيق حاد، وإشادات وصريخ تأييد وحب.
ثم نأتى لنفس المكان بعد أن اختفى بريق شهرتها، لتصدمنا المخرجة بمرور أحد عربات النظاقة المحملة بالقاذورات، والمخلفات على النجمة المحفور عليها اسمها فى ذات البقعة!!
يفاجئها صاحب القناة بالاستغناء عن خدماتها الاستعراضية فى يوم ميلادها مبررا :
"حينما تبلغ الخمسين يتوقف كل شئ"
وعندما سألته عن معنى جملته، لم يتفوه بكلمة.. بل أشار بنظره إلى فتاة شابة كانت واقفة خلف مائدته بالمطعم، وتركزت الكاميرا حينها لتظهر منحنيات جسدها المثيرة لغرائزه الحيوانية!
ثم إلى الجمبرى الذى يهتز بين أصابعه!!
المخرجة وظفت كل الأدوات لإيصال رسالتها وربطها بموضوع الفيلم ..وهو الغرق فى المادية المفرطة!!
أمامه طبق ملئ بالجمبرى يتناول واحدة تلو الأخرى بلقطة قرببة جدا من فمه( extreme close up)
وهو يلتهمه بشكل مقزز ويقبض عليه بين فكيه كالأسرى.
تأملت النجمة منظر 《الذبابة》فى هذه اللحظة وهى غارقة فى كأس النبيذ، تحاول الفكاك منه بلا أدنى طائل إلى أن تزفر أنفاسها الأخيرة!
نعم فالمرأة ليست سوى 《ذبابة》 فى عين هذا الرجل الشره! ولا ينظر لها إلا كأداة لإثارة الغريزة الحيوانية لمشاهدى برنامجه.. فإذا بدأت التجاعيد فى الظهور؛ طردت من فورها بلا أدنى حساب أو مناقشة!
كان يتحدث تليفونيا مع أحد المسؤولين فى القناة متنمرا على سنها وكبرها بشكل حقير مبالغ فيه،
ووظفت المخرجة المكان(دورة المياة) مع الكلام القذر الذى يتفوه به أثناء فعل(التبول)؛
لتتأكد فكرة الغرق فى 《المادية المفرطة》 والإصرار على التعامل بحيوانية مع الإنسان وجوهره الاستثنائى!
وبعد كل هذا اليأس والإحباط الذى يلاحقها بنفس يوم ميلادها..تراقب البوسترات المعلقة لبرنامجها وهى تمزق فى الشارع أثناء عودتها للمنزل..وكأنهم يمحون تاريخها ومشوارها الفنى كله، مع أول دقة ناقوس لتجعيدة جديدة تظهر على بشرتها!!
وبينما هى مأخوذة من هول الصدمة والألم؛ فاذا بالسيارة تنقلب وتتعرض لحادث مروع..
هنا يجب أن أشيد بالزاوية التى تم تصوير هذا المشهد من خلالها؛ حيث كانت المرة الأولى التى أشعر فيها، بواقعية الحادثة وكأننى أنا من اتعرض للحادث، وسبب ذلك يرجع إلى تصوير المشهد من داخل السيارة وهى تنقلب ..لا من خارجها كباقى حوادث السيارات التى نشاهدها فى معظم الأفلام. مشهد مفزع وواقعى إلى حد الصدمة!!
وكأنك تختبر بنفسك اهتزاز جسدك، وارتجاج رأسك داخل هذه السيارة؛ فتنتقل حينها من كرسى المشاهد لكرسى المشارك فى الحدث.
تنقلب حياتها رأسا على عقب بعد إرسال فلاشة عليها إعلان لاختراع جديد..يخلق منها نسخة إضافية ..تولد من خلال جسدها.._ظهرها_ هذه النسخة أصغر وأفضل وأجمل من نسختها الحالية..على شرط أن يتم التبادل دوريا بين هذه النسخة الحديثة، ونسختها الأصلية؛ فتعيش أسبوعا كما هى على حقيقتها وصورتها وهيئتها..وأسبوعا آخر فى جسد امرأة شابة جميلة صغيرة فى السن!!
وانتم تعرفون جيدا أن الإنسان طماع بطبعه!!
لا يمكن ابدا أن يرضى بنسخة أقل من نفسه، خاصة إذا قدر له أن يختبر يوما نسختة المثالية!!
فتخيل أن تعيش بين الناس محفوفا بالتقدير والإطراءات والملاحقة، ثم ترضى بعدها أن يعاملوك 《ككم مهمل》 لا جدوى منه!!
يبدأ الصراع بين النسخة المطورة، والنسخة الاصلية التى أرهقتها نفسيا وجعلت الكل ينبذونها ويجحدون قيمتها!!
ومع احتدام الصراع، وفشل النسخة المطورة فى الحفاظ على النظام المتفق عليه..تحدث الكارثة!!
فتتحول حينئذ《 لمسخ مشوه》..لا يتمكن أحد من رؤيته إلا ويهرب فزعا من مظهره!!
صورة مرعبة بشعة، ليست فى هيئة بشر ولا حيوان!
وقبل الإطلالة الأخيرة على المسرح للاحتفال برأس السنة..تخيلت نفسها تمر أمام الجماهير، وهى على صورتها المرعبة تلك، وهم لازالوا يهللون، فرحين بها، صارخين فى وجهها: بأنهم سيحبونها دائما على أى وضع وأى حال!!
وبعد ثوانى من صعودها الفعلى على المسرح؛
اشمئزوا منها وصرخوا فى وجهها،فزعين هاربين.
حاولت طمئنتهم قائلة:
"أنا هى ..أنا هى تلك التى أحببتموها..
صدقونى
أنا هى.."
ظلت ترجوهم أن يستمعوا إليها ..يعطوها فرصة و
لكن بلا جدوى.
حاول أحدهم طعنها ..ليصبح مشهدا سرياليا، وهى تلتف حول نفسها على المسرح، والدم يفور منها على الجمهور، ويغرفهم جميعا بنزيف تنمرهم، ووحشيتهم، ولاانسانيتهم فى التعامل معها!!
تنزف جرح كلماتهم التى طعنتها حينما انحسرت عنها الأضواء واتمت عامها الخمسين!!
فى عالم مادى، لا يجد فيه الحالمون موضع قدم..تدهس حسهم المرهف، كل الغرائز الحيوانية السائدة !!
"سوف يحبونك"
"سوف يحبونك"
جملة أكدت عليها المخرجة الفرنسية أكثر من مرة..أثناء تصوير مشاهد الفيلم..
جملة أثرت فى هذه النجمة؛ تشبثا بتاريخ صنعته وشهدت فيه على تقدير من حولها ..كانت تأمل أن يحبوها على كل حال وفى كل الأوضاع!!
إلا أن سلوكهم يؤكد العكس تماما. فقد أغرموا بالصورة..بالجسد الرشيق ..بالشفاه الممتلئة ..بمنحنيات الجسد المثيرة !!
وحينما اختفت هذه المظاهر لعوامل التقدم فى السن، تعاملوا معها وكأنها كومة من اللحم الفاسد، منتهى الصلاحية!
تعبير يبدو قاسى، ولكن آلامها النفسية تشير إلى واقعيته!!
تذكروا معى كم نجمة، انحسرت عنها الاضواء فالتهمتها العيون والألسن بوقاحة، بعدما رفعتها لسماء الإطراء والمديح والتبجيل واللحاق بها لالتقاط صورة بجانبها!!
كم عمليات تجميل تجرى حول العالم الآن فى هذه اللحظة التى أكتب فيها إليكم؟!
شفط دهون..ورفع أثداء..حقن أرداف..تجميل أنف..نفخ الشفاه وشد الوجه..إلخ!! بل وامتد الأمر للرجال أيضا..
كل ذلك لا يشير إلا لأمر واحد، وهو أن العالم من حولنا يركز بشكل كبير على المظهر والمظهر فقط!! ويفرض على هذا التوجه بشكل مكثف!!
وأغلب الذين يرددون ليلا ونهارا نصائح عن أهمية الجوهر ونكران المظهر؛ هم أكثر من يعاملون الناس بصورهم لا بعقولهم ولا بقلوبهم!!
وهم ذات النوعية التى تنتقد فنانة بسبب عمليات التجميل التى أجرتها..وفى نفس الوقت ينتقدون أخرى بسبب كبر سنها والتجاعيد والترهلات التى أصابت جسدها، مطالبين إياها بالتوقف عن الظهور، حتى لا تخدش أعينهم الوقحة !!
أعينهم التى تلتهم جسدها وتتمنى أن تنال شرف الاقتراب منه، ثم تسب مالكته وتطعن فى شرفها وتربيتها وسلوكها!!
ازدواحية عالم يدعى المثالية، وهو غارق فى
《غرائز بهيمية》 تشبه روحه المعطوبة!!
ماذا ننتظر من عالم؛ التنمر فيه أصبح سلاحه الأوحد، والاغتيال المعنوى سبيله الأمثل والأسرع لإظهار عقمه النفسى وبلادة مشاعره ..
إن هذا الفيلم هو فيلم العصر ..على قياسه ووزنه وظروفه وما يعتريه من أوبئة فكرية ستودي يوما إلى هلاكه!!
فيلم به جرعة إبهار وحيدة من نوعها فى عالم الفانتازيا، والخيال العلمي والتى تناولتها المخرجة الفرنسية(كورالى فارجت) من منظور نفسى لم يتطرق إليه أحد من صناع السينما من قبل، بهذه القدرة الاحترافية والجرأة الاستثنائية على تجسيد الشهوة والألم والوحشية والرغبة والإثارة والمتعة فى آن!
فقد أرهقت المشاهدين من كثافة الجرعة المروعة للنفس قبل النظر!!
الجدير بالذكر أيضا أن(كورالى فارجت) هى مخرجة العمل وأيضا مؤلفته ..
وقد حصل هذا الفيلم على جائزة أفضل سيناريو من مهرجان (كان) بدورته السابعة والسبعين فى شهر مايو لهذا العام.
كما عرض فى مهرجان الجونة السينمائى يوم ٢٥ اكتوبر،
وتم عرضه مرة واحدة فقط فى سينما (زاوية) بوسط البلد؛ و التى تعني بأفلام المهرجانات العالمية والأفلام المستقلة بشكل دورى وجاد ومتصدر.
ولا ينتظر أن يعرض فى دور السينما العامة..بسبب حدة مشاهده وجرأتها الشديدة!