إرث الأدوار: رحلة الجندر في مجتمع مأزوم ((حيرة الجندر الحزين)) الجزء الثاني



خليل إبراهيم كاظم الحمداني
2024 / 11 / 9

الجندر والدين
يشكل موضوع الجندر والدين، وبشكل أخص دور رجال الدين، قضية حساسة في الثقافة الشرقية. تُعدّ محاولة تناول الموضوع بموضوعية بمثابة تحدٍ، خاصة في ظل وجود تفسيرات دينية تُسهم في تقييد دور المرأة وتعزيز السلطة الذكورية. هدفنا هو كشف الطرق التي تُوظّف بها بعض النصوص الدينية من قبل رجال الدين لدعم هيمنتهم المجتمعية، وكيف يمكن قراءة تلك النصوص بشكل أكثر حيادية.
في سياق معالجة العلاقة بين الدين والجندر، وتحديدًا دور رجال الدين، يمكننا استكشاف الموضوع من خلال رؤى فتحي المسكيني في كتابه (الجندر الحزين) بمناقشة التأثيرات المعقدة لتأويلات رجال الدين للنصوص المقدسة وكيف أنها تُستخدم لتبرير أنماط الهيمنة الجندرية. يهدف هذا الجزء إلى تقديم تحليل عميق لهذه الديناميكية من خلال عرض مواقف رجال الدين، وتناول آثارها على دور المرأة في المجتمعات، مع التركيز على إشكالية الحياد الموضوعي في دراسة الموضوع.
المحور الأول: الجندر والدين – تأطير تاريخي
يبرز المسكيني أهمية فهم الجندر في الدين كنتاج تأويلي تراكمي، حيث يُصاغ دور المرأة من خلال مقولات تجسد السلطة الذكورية. ويلاحظ أن الفقهاء قاموا بتحويل النصوص الدينية لتبرير أوضاع اجتماعية قائمة وليس لإقرار أوضاع جديدة. إذ يبين المسكيني أن التلاعب بالنصوص لاستبقاء الأدوار التقليدية يفضي إلى تصور أن المرأة كائن أدنى من الرجل من حيث الدور الاجتماعي، رغم التأكيد القرآني على الكرامة المشتركة بين الجنسين.
المحور الأول: الجندر والدين – تأطير تاريخي
في المجتمعات التقليدية، يُعتبر الدين عاملاً مؤسسًا لرؤية المجتمع تجاه الجندر، حيث يُصاغ دور المرأة استنادًا إلى مقولات ترتكز على السلطة الذكورية وتمنحها الشرعية. تاريخيًا، كان للنصوص الدينية دور جوهري في تشكيل هذه الرؤية، لكنها كانت تتعرض أيضًا للتأويل بما يتوافق مع واقع كل مجتمع واحتياجاته. بمعنى آخر، لم تكن النصوص وحدها هي ما حدد أدوار النساء والرجال، بل التفسيرات والتطبيقات التي قام بها رجال الدين.
‌أ) المرأة بين "الشخص" و"الجسد" في النصوص الدينية:
من أهم القضايا التي طرحها المفكرون، مثل المسكيني، هي الفرق بين النظر للمرأة كشخص وبين التعامل معها كجسد له غاية محددة. في المجتمعات الشرقية، يُنظر إلى المرأة من خلال "حرمات" تقتصر على حماية جسدها ودورها كأم وزوجة، حيث يعتبر جسدها "مُلكًا" للرجل أو العائلة، بينما يُفترض أن الرجل هو المسؤول عنها. يمكن أن نرى هذا في تفسير الآية: "الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم" (سورة النساء، الآية 34). استخدم رجال الدين هذه الآية لترسيخ فكرة "القوامة" التي تعني سيطرة الرجل على المرأة بحجة الحماية والإنفاق، مع العلم أن تفسيرات حديثة تعيد قراءة القوامة بشكل أدق، حيث تشير إلى أنها تكليف للرجل بتوفير الحماية والدعم دون أن تكون سيطرة مطلقة.
‌ب) تطور الأدوار الجندرية في النصوص الدينية:
تطورت تفسيرات النصوص الدينية المتعلقة بالجندر مع الوقت، وأصبحت أكثر تركيزًا على وضع المرأة في أدوار تقليدية. في بعض الأحيان، كان يُنظر إلى المرأة كعنصر ضعيف يحتاج لحماية الرجل، وهذا ظهر بوضوح في تفسير بعض الأحاديث النبوية التي استخدمها الفقهاء لتقييد حرية النساء. على سبيل المثال، تم استخدام الحديث "النساء ناقصات عقل ودين" لتبرير وضع قيود على النساء، على الرغم من أن العديد من العلماء يعتبرون هذا الحديث متداولًا في سياق خاص وليس قاعدة عامة على المرأة.
أما في المسيحية، فقد انتشر استخدام نصوص من الرسائل الإنجيلية التي تحث النساء على "الخضوع" لأزواجهن. في رسائل بولس، تم التشديد على فكرة أن "الرجل هو رأس المرأة" (كورنثوس الأولى 11: 3)، مما أدى إلى تبني رؤية تربط بين الذكورة والقيادة. ورغم ظهور تفسيرات حديثة تركز على العلاقات التشاركية، استمرت هذه الأفكار القديمة في تشكيل تصورات مجتمعية حول أدوار الجنسين.
‌ج) دور الفقه في ترسيخ الصورة النمطية للمرأة:
استخدم رجال الدين النصوص لتبرير أدوار معينة للمرأة وحصرها في حدود معينة. في عصور سابقة، تم تبرير تقييد خروج النساء من المنزل أو إلزامهن بتغطية كامل أجسادهن باستخدام تفسيرات فقهية تُعلل هذا بالحياء أو الحفاظ على القيم المجتمعية. تم اعتبار المرأة "فتنة"، وبالتالي كانت تُعامل ككائن يجب حماية الآخرين منه ومنعه من إثارة الشهوات. كان لهذه التفسيرات أثر مباشر في تقييد حرية المرأة واعتبارها دائمًا في موقع "التابع".
المحور الثاني: رجال الدين وتأويلات النصوص
‌أ) التأويل الفقهي كأداة للهيمنة الذكورية:
غالبًا ما تتمحور التفسيرات الفقهية حول حماية المجتمع وفق منظور رجولي، وهو ما أدى إلى تجذير أدوار محددة للمرأة. يساهم رجال الدين في تعزيز هذه الأدوار من خلال إظهار النصوص كمبرر لسيطرة الرجل وإبعاد المرأة عن مراكز السلطة. ورغم تطور الفقه واختلاف التفسيرات بين المدارس، إلا أن بعض التفسيرات الفقهية المتشددة لاتزال تضع قيودًا على المرأة استنادًا إلى مفاهيم القوامة والطاعة.
كمثال معاصر، نجد في بعض الدول الشرقية فتوى تمنع المرأة من تقلد مناصب رفيعة أو القيادة بحجة أنها "تفتقر" للصفات المطلوبة، وهذا يعتبر انعكاسًا لاستمرار الفقهاء في استخدام التأويلات التقليدية. وفي بعض المجتمعات الإسلامية، يستمر تحريم بعض الأنشطة للنساء كقيادة السيارات أو السفر دون محرم، مما يعكس استغلال النصوص لتبرير الهيمنة الذكورية وليس لأسباب دينية حقيقية.
‌ب) الفارق بين "النساء" و"المرأة" في الفقه الإسلامي:
وفقًا للمسكيني، يتم استغلال مفهوم "النساء" في الفقه الإسلامي بشكل جماعي، مما يؤدي إلى تهميش خصوصية المرأة كفرد، ويتم التعامل معهن كفئة اجتماعية خاضعة للأحكام الجماعية. يرى المسكيني أن النص القرآني قد منح المرأة حقوقًا كفرد، إلا أن الفقهاء تعاملوا مع النساء ككتلة واحدة تسري عليها قواعد ثابتة، مما سمح لهم بتبرير هيمنة الذكور على النساء بشكل عام.
على سبيل المثال، في آية الإرث {للذكر مثل حظ الأنثيين} (سورة النساء، الآية 11)، يتم تقديمها كدليل على أن الرجل أحق بالنصيب الأكبر في الإرث. ورغم أن الآية تحدد نسبة الإرث للذكر والأنثى، إلا أن تأويلاتها الحديثة تشير إلى أن القاعدة تتعلق بالمسؤوليات المالية وليس لتفضيل الرجل على المرأة. ومع ذلك، يتمسك بعض رجال الدين بهذه التفسيرات لتبرير هيمنتهم على القرارات المالية والاجتماعية للمرأة.
‌ج) قراءة بديلة للنصوص:
يشير المسكيني إلى ضرورة مراجعة التأويلات التقليدية للنصوص الدينية بشكل يسمح بتعزيز الكرامة والمساواة. العديد من المفكرين المعاصرين يرون أن النصوص الدينية تحمل إمكانيات كبيرة لتعزيز مفهوم الجندر بشكل عادل. كما أن هناك أمثلة معاصرة لتفسيرات جديدة تدعم المساواة بين الجنسين مثل قيام بعض المؤسسات الدينية بإعادة قراءة النصوص من زاوية حقوقية، حيث يبرز فيها دور المرأة كشريك للرجل وليس ككائن خاضع.
يمكننا أن نتخيل المشهد التالي: رجل دين تقليدي يعتلي منبره ويخاطب حشدًا من الناس حول ضرورة حماية "أعراضهم" وحصر النساء في البيوت، مستخدمًا نصوصًا دينية على مرأى ومسمع العامة. في المقابل، يبرز مفكر ديني آخر يطرح رؤية تفسر الآيات ذاتها على أنها دعوة للعدالة والتكريم للمرأة باعتبارها كيانًا قائمًا بذاته. الاختلاف في الخطابين يوضح أن التفسيرات ليست وليدة النص بقدر ما هي نتاج عقول من يسعى لاستخدام الدين لخدمة رؤية محددة أو لتطوير رؤية أخرى.
لقد أوضحنا أن علاقة رجال الدين والجندر تتراوح بين هيمنة تستند إلى تفسيرات ثابتة تهمش المرأة، وبين محاولات معاصرة تسعى لتطوير فهم جديد للنصوص الدينية. بفضل جهود مفكرين مثل المسكيني، أصبح بالإمكان تحدي القراءة التقليدية التي تربط بين الذكورة والقوامة وتؤطر دور النساء بشكل محدد. ربما تكمن الحاجة المستقبلية في تطوير رؤى دينية أكثر تقدمية تعيد النصوص إلى جوهرها الإنساني وتستجيب للواقع الاجتماعي المعاصر.
المحور الثالث: الحياد الموضوعي – تحديات وتداعيات
عند تناول العلاقة بين الدين والجندر في سياق الثقافة الشرقية، يصبح مفهوم الحياد الموضوعي أكثر من مجرد اختيار منهجي، بل تحديًا حقيقيًا. يعتبر الحياد ضروريًا في الدراسات التي تسعى لفهم الدين بوصفه عنصرًا ثقافيًا واجتماعيًا مؤثرًا، ولكن عند مواجهة مواضيع حساسة كالجندر، يكون الباحث أمام امتحان حقيقي لقدراته على التوازن بين الموضوعية واحترام المعتقدات. إن الأسئلة التي تطرحها هذه العلاقة ليست مجرد أسئلة عن الأدوار، بل عن جوهر الهوية، التقاليد، والمكانة الاجتماعية. إن التعامل مع الحياد في هذا السياق يختبر ليس فقط قدرة الباحث على التحليل، بل أيضًا استعداده لتحدي مسلّمات ثقافية واجتماعية قديمة ومتجذرة.
التحديات التي تواجه الحياد الموضوعي في معالجة الدين والجندر
‌أ) التراث الديني وتأثيره على النظرة للجندر:
يعتبر التراث الديني بمثابة العمود الفقري الذي يرتكز عليه العديد من رجال الدين في تبرير هيمنة الذكور وتحديد أدوار النساء. ومع ذلك، فإن التراث بحد ذاته ليس مجرد نصوص قديمة، بل منظومة معقدة من التفسيرات والآراء التي تطورت على مدار قرون. وهنا تتجلى إحدى التحديات الأساسية؛ إذ كيف يمكن لباحث موضوعي أن يحافظ على حياديته عند تناول موضوعات تمس قدسية التراث الذي ينظر إليه باعتباره مصدرًا للهوية والحقوق؟ فمعظم التفسيرات الدينية التي رسخت أدوارًا جندرية صارمة ليست فقط وليدة النصوص المقدسة بل نتاج مجتمعات كانت تحاول الحفاظ على نظمها التقليدية. وهكذا، يصبح الحياد كالسير على خيط رفيع: احترام التقاليد من جهة، وعدم السماح لها بأن تكون قيدًا على التطور والمساواة من جهة أخرى.
‌ب) العلاقة بين التفسير الديني والأدوار الاجتماعية:
تأخذ معظم التفسيرات الدينية قوة شرعية خاصة، مما يجعلها محاطة بهالة من القداسة. وغالبًا ما يتعرض الباحث الذي يحاول التفريق بين النص والتفسير للاعتراض، خصوصًا إذا كانت الاستنتاجات تميل إلى تحدي الأدوار التقليدية للجنسين. يواجه الحياد هنا عقبة إضافية؛ حيث إن التفسير الديني يمتزج مع الدور الاجتماعي ليشكل رؤية مجتمعية كاملة يصعب تغييرها، مما قد يؤدي إلى ردود فعل دفاعية إذا شعر المجتمع أن هذه الأدوار مهددة. فعلى سبيل المثال، نجد في بعض المجتمعات أن دور المرأة كأم وزوجة يصبح جزءًا من هوية المجتمع، ويتعرض الباحث الموضوعي لمقاومة قوية إذا حاول تقديم رؤية تتجاوز هذه الأدوار.
‌ج) التحديات النفسية والاجتماعية للباحث:
تتجلى صعوبة الحياد ليس فقط في التحديات الأكاديمية بل أيضًا في التأثيرات النفسية والاجتماعية التي تترتب على الباحث الذي يعالج موضوعًا حساسًا كالجندر في الدين. فالباحث، خاصة في المجتمعات الشرقية، قد يتعرض لضغوط أسرية أو مجتمعية، أو حتى إدانة ضمنية إذا وُجدت قراءته بعيدة عن التيار السائد. يتعرض الباحث لخطر العزلة الأكاديمية أو الاجتماعية إذا ما تبنى مواقف تُعتبر مستفزة للمجتمع أو تتحدى مفهوم "الثوابت"، وهنا يتطلب الحياد قدرة على التحمل والثبات أمام هذه الضغوط.
‌د) التأثير المجتمعي لرؤية رجال الدين على الحياد الموضوعي:
تلعب رؤية رجال الدين دورًا مؤثرًا في تحديد الموقف المجتمعي تجاه الجندر. غالبًا ما تؤثر خطب رجال الدين وتفسيراتهم للقرآن أو الإنجيل على رؤى المجتمع بأسره، بحيث يصبح الحياد أمام هذه السلطة تحديًا مضاعفًا. فعندما يتبنى رجال الدين موقفًا متشددا أو يعارض المساواة الجندرية، فإن أي بحث أو رأي موضوعي يتناول الدين والجندر سيواجه هجومًا قويًا وقد يعتبر تهديدًا. وهكذا، يكون على الباحث الموضوعي أن يتعامل مع تصور مجتمعي يعامل رجال الدين كمرجع لا يقبل النقاش أو النقد، مما يجعله في مواجهة مباشرة مع السلطة المجتمعية.
التداعيات الاجتماعية والفكرية للحياد الموضوعي في تناول الجندر والدين
في سياق دراسة العلاقة بين الجندر والدين، يظهر الحياد الموضوعي كأحد التحديات الأكثر تعقيدًا، نظرًا لتشابك هذه العلاقة مع التركيبة الاجتماعية والثقافية والدينية للمجتمعات، خاصة في البيئات الشرقية. فعلى الرغم من أن الحياد يمثل أحد مبادئ البحث العلمي، إلا أن تطبيقه في هذا السياق يضع الباحث أمام صعوبات قد تصل إلى التضحية ببعض الثوابت المجتمعية، مما يعرضه للانتقاد أو الرفض. إن التأمل الموضوعي في قضايا الجندر والدين يتجاوز مجرد تناول النصوص الدينية وفهمها، إذ يمتد إلى تأثيرات هذه النصوص والتفسيرات الفقهية المرتبطة بها على الواقع الاجتماعي ومكانة المرأة، بل وحتى على تصورات المجتمع عن هويته وتاريخه.
إن السعي نحو الحياد يطرح تساؤلات عن كيفية تناول تفسيرات تقليدية تستند إلى سلطة رجال الدين في تحديد أدوار النساء وحصرها ضمن أطر معينة قد تقيّد حريتها أو تحد من فرصها. وفي هذه الحالة، يصبح الحياد سيفًا ذا حدين: فمن ناحية، يُنظر إليه كوسيلة لفصل البحث العلمي عن الأحكام الاجتماعية المسبقة، ومن ناحية أخرى، قد يُفسَّر على أنه انحياز غير معلن إلى القيم الإنسانية الحديثة التي تعارض هيمنة الذكور في الأدوار المجتمعية. ولذا، فإن الحياد الموضوعي يضع الباحثين أمام تحديات فكرية تتعلق بتقديم قراءات جريئة وموضوعية للنصوص الدينية، دون أن يؤدي ذلك إلى نسف التقاليد التي تنبني عليها هوية المجتمع.
تبرز أهمية الحياد أيضًا من حيث تأثيره على الخطاب العام؛ إذ إنه يعيد صياغة العلاقة بين الدين والجندر ويقدم منظورًا جديدًا قد يُحدث تحولات فكرية واجتماعية. فعندما يُقدَّم الدين بصورة تدعم العدالة والمساواة بين الجنسين، فإنه يعزز من القيم الإنسانية، ويعيد تشكيل دور رجال الدين من حراس للنظام التقليدي إلى داعمين للمساواة والتكافؤ الاجتماعي. ومن هنا، يمكن للحياد الموضوعي أن يُسهم في تغيير بنية الخطاب المجتمعي التقليدي، مما يعزز التقبل الاجتماعي لفكرة أن الدين وحقوق الإنسان يمكن أن يتواجدا بتوافق.
‌أ) التحول من التقليد إلى النقد:
يؤدي الحياد الموضوعي في تناول الجندر والدين إلى تغييرات جذرية في التفكير المجتمعي، حيث يصبح المجتمع أكثر استعدادًا لتقبل النقد بدلًا من الاعتماد المطلق على التقليد. عندما يتم تناول الدين والجندر من منظور موضوعي وحيادي، يكون من الممكن تفكيك بعض القيم التقليدية التي تكرس الهيمنة الذكورية. على سبيل المثال، إذا تم توضيح أن بعض النصوص ليست إلزامية في سياقها التاريخي، فقد يؤدي ذلك إلى تحرير المرأة من قيود اجتماعية ليس لها بالضرورة علاقة بالدين.
‌ب) تمكين المرأة والمساواة:
يمكن للحياد في دراسة الجندر والدين أن يُسهم في تمكين المرأة من خلال إعادة تفسير النصوص الدينية بما يتناسب مع مبادئ العدل والمساواة. العديد من التفسيرات التقليدية تحد من حقوق المرأة وحرياتها تحت مبررات دينية، إلا أن الحياد الموضوعي يمكن أن يساعد في تقديم قراءة جديدة تتماشى مع قيم المساواة، مع الحفاظ على احترام النصوص الدينية. قد يؤدي هذا إلى تحولات اجتماعية ملحوظة، حيث تصبح المرأة جزءًا فاعلًا ومؤثرًا في المجتمع، وليس مجرد تابع يُستند على "ضعفه" لتبرير الهيمنة الذكورية.
‌ج) إعادة تشكيل دور رجال الدين:
في ظل وجود أبحاث موضوعية تتناول الدين والجندر بحياد، قد يُعاد تشكيل دور رجال الدين ليكون أكثر انفتاحًا على التفسيرات التي تدعم المساواة بين الجنسين. يمكن أن يتجه رجال الدين نحو تعزيز الجوانب الأخلاقية للدين التي تدعو إلى العدل والمساواة، بدلًا من التركيز على تأويلات تدعم الهيمنة. هذا التحول قد يؤدي إلى تغيير في النظرة المجتمعية نحو الدين والجندر، حيث يمكن أن يصبح الدين داعمًا لقيم حقوق الإنسان، ويقل الاعتماد على تفسيرات تقليدية مقيدة.
‌د) التأثير على الخطاب العام وقيم المجتمع:
يخلق الحياد الموضوعي في دراسة الدين والجندر نوعًا من الخطاب المجتمعي الأكثر تقبلًا للتنوع والمرونة. في المجتمعات الشرقية، تُعتبر القيم العائلية والاجتماعية جزءًا لا يتجزأ من الهوية، لكن الحياد يساعد على فصل النصوص الدينية عن العادات المجتمعية، مما يمكن أن يُعزز قيم المساواة والحرية. على المدى البعيد، قد يؤدي هذا النوع من الدراسة إلى مجتمع يعترف بحقوق المرأة كحقوق أصيلة، ويعزز من فكرة أن الإيمان وقيم حقوق الإنسان يمكن أن يتعايشا معًا.
‌ه) مخاطر عزلة البحث الموضوعي:
هناك جانب سلبي قد يواجه الباحث الموضوعي في معالجته لموضوع الدين والجندر، حيث قد يُنظَر إلى أبحاثه على أنها خارجة عن المألوف أو مثيرة للجدل. في بعض الأحيان، يُفضَّل الباحثون المتحفظون الذين لا يتحدون التفسيرات التقليدية أو التقاليد. قد يؤدي هذا إلى عزلة أكاديمية للباحثين الموضوعيين الذين يحاولون إحداث تغيير فكري، مما يجعل من الصعب عليهم تحقيق تأثير واسع في مجتمع لا يزال يتبنى رؤية تقليدية للدين والجندر.
بالتالي، يمثل الحياد الموضوعي في معالجة الدين والجندر تحديًا يتطلب من الباحث قدرة على الوقوف في منطقة وسطى بين احترام التراث وتقديم رؤية نقدية بناءة. ويتطلب هذا النوع من البحث الحيادي دعمًا فكريًا واجتماعيًا، حيث يتعامل مع موضوعات تمس الهوية الثقافية والدينية للمجتمعات، وتحتاج وقتًا وجرأة للتأثير فيها.
المحور الرابع: نحو قراءة جديدة لمفهوم الجندر في الدين
يدعو فتحي المسكيني في كتابه *الجندر الحزين* إلى إعادة التفكير في مفهوم الجندر من زاوية دينية جديدة، محاولًا كسر القيود التي فرضتها التفسيرات التقليدية للنصوص الدينية. يرى المسكيني أن هذا النوع من القراءة يتطلب جرأة في التعامل مع النصوص، وفي فهم العلاقات بين الدين والجندر من منظور بعيد عن الأطر الفقهية القديمة التي ركزت على التمييز بين الجنسين وتحديد أدوار ثابتة لهم. وبدلًا من ذلك، يقدم رؤية تؤكد على كرامة الإنسان وقيم العدالة والمساواة، معتبرًا أن الدين يمكن أن يكون داعمًا للتغيير الاجتماعي بدلاً من أن يكون قيدًا عليه. من هذا المنطلق، يسعى المسكيني إلى قراءة بديلة تستند إلى رؤية أكثر شمولية للجندر في الدين، حيث يتم التركيز على فهم النصوص الدينية من زاوية حقوقية وإنسانية تعزز من مكانة المرأة، وتطرح أدوارًا مرنة ومتجددة للجنسين.
ويقترح جملة من العناصر التوفيقية والحلول الناجعة لمعضلة مفاهيمية خلقت اشكالات تاريخية مدمرة ومن ذلك:
‌أ) التأكيد على المساواة الأنطولوجية بين الجنسين:
يؤكد المسكيني أن النصوص الدينية تعترف بالمساواة الأنطولوجية بين الرجل والمرأة، بمعنى أن كلاهما يشتركان في القيمة الإنسانية والمكانة الكونية. في نظر المسكيني، يعد هذا المفهوم أساسيًا لبناء قراءة جديدة للجندر، لأن المساواة الأنطولوجية تتجاوز التفسيرات الفقهية التقليدية التي غالبًا ما كرست للتمييز. فهو يرى أن النصوص الدينية التي تتحدث عن الخلق والمصير المشترك للإنسانية تشير إلى كرامة متساوية لكلا الجنسين، مما يعني أن الفروقات الجندرية ليست جزءًا من القيمة الأساسية للإنسان، بل هي تعبير عن تنوع اجتماعي طبيعي.
مثال من القرآن: يستشهد المسكيني بآية {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (الإسراء: 70) لتوضيح أن التكريم الإلهي يشمل جميع البشر بغض النظر عن جنسهم، مما يشير إلى وحدة الوجود الإنساني وكرامته المتساوية. يرى المسكيني أن هذه الآية تُعتبر أساسًا لمفهوم المساواة الأنطولوجية التي يجب أن تحكم العلاقة بين الرجل والمرأة، وأن هذه المساواة تتطلب قراءة متحررة من التفسيرات الفقهية التي تقيد دور المرأة.
‌ب) إعادة فهم مفهوم "القوامة" من زاوية إنسانية وحقوقية:
يقترح المسكيني إعادة النظر في مفهوم القوامة، الذي يستخدم عادةً لتبرير الهيمنة الذكورية على النساء. فهو يرى أن القوامة، كما تُقدم في النصوص الدينية، لا تعني بالضرورة السلطة المطلقة للرجل على المرأة، بل قد تتضمن معاني أعمق تتعلق بالرعاية والدعم. وبذلك، يمكن للقوامة أن تكون علاقة تكافل ومسؤولية مشتركة، وليست تعبيرًا عن هيمنة أحد الجنسين على الآخر.
بل و يمكن أن يُعاد تفسير القوامة على أنها التزام أخلاقي متبادل بين الزوجين، حيث تكون مبنية على الدعم العاطفي والتعاون المادي والاحترام المتبادل، بدلاً من أن تكون سيطرة مطلقة لأحد الطرفين على الآخر. هذه القراءة تتماشى مع قيم حقوق الإنسان وتفتح المجال لبناء علاقة زوجية متساوية.

‌ج) التفريق بين "المرأة" و"النساء" في النصوص الدينية:
يشير المسكيني إلى أهمية التفريق بين مفهوم "المرأة" و"النساء" في النصوص الدينية. فهو يرى أن النصوص التي تخاطب "المرأة" بشكل فردي تركز على شخصيتها وحقوقها ككيان مستقل، بينما النصوص التي تشير إلى "النساء" كجماعة تُستخدم غالبًا لتحديد الأدوار الاجتماعية. ويرى المسكيني أن هذا التفريق يسمح بإعادة التفكير في كيفية فهم الأدوار الجندرية في الإسلام، ويمنح المرأة مساحة أكبر للتعبير عن استقلالها وشخصيتها بعيدًا عن القوالب الجماعية.
ويمكن أن تعتمد القراءة الجديدة للجندر على تقديم المرأة كفرد، حيث يكون من الممكن لها اتخاذ قراراتها بنفسها وتقرير مصيرها، مع مراعاة القيم الدينية. هذه القراءة الفردية تتجنب التعميمات التي تفرض على النساء أدوارًا موحدة، مما يتيح لكل امرأة حرية اختيار مسارها بناءً على قيمها وظروفها.
ومن الممكن ان نقدم بعض الاضافات في هذا السياق من قبيل :
‌أ) إعادة قراءة مفهوم الطاعة من منظور الشراكة الزوجية:
تعد "الطاعة" واحدة من أكثر المفاهيم إثارة للجدل في النصوص الدينية المتعلقة بالعلاقات الزوجية، حيث يُنظر إليها تقليديًا كمطلب تفرضه التعاليم الدينية على المرأة تجاه زوجها. ومع ذلك، يمكن تقديم قراءة جديدة للطاعة تُفسر على أنها التزام متبادل مبني على الشراكة وليس الخضوع. هذه القراءة تستند إلى أن العلاقة الزوجية هي علاقة مشاركة ومسؤولية، وليست علاقة هيمنة.
و يمكن التعامل مع الطاعة كالتزام تعاوني يتمثل في الاحترام المتبادل والدعم، وهو نهج يعزز العلاقة الصحية بين الزوجين، ويعكس فهمًا أكثر تقدمًا للعلاقات الزوجية.
‌ب) استلهام مفاهيم العدالة القرآنية لتقديم أدوار جندرية مرنة:
يشير القرآن في آيات عديدة إلى قيمة العدالة كعنصر أساسي في التعامل بين الناس. لذا، يمكن استخدام مفهوم العدالة القرآني لإعادة بناء الأدوار الجندرية بصورة مرنة، حيث يتيح للمرأة والرجل أن يؤديا أدوارًا حسب مهاراتهما واهتماماتهما، بعيدًا عن التحديدات الصارمة التي كانت تفرض على النساء سابقًا.
رؤية جديدة: بناء الأدوار الزوجية على قاعدة العدالة الفردية، بحيث يمكن للطرفين أن يشتركا في أدوار متعددة داخل الأسرة وخارجها وفقًا لقدراتهما واهتماماتهما، مما يعزز التعاون والاحترام في العلاقة.
‌ج) دور الدين في تعزيز حرية الاختيار للمرأة:
يؤكد المسكيني أن قراءة النصوص الدينية بموضوعية تسمح بإعادة النظر في العديد من الأحكام التقليدية التي قيدت حرية المرأة. ويرى أنه يجب السماح للمرأة بحرية اختيار مسار حياتها، سواء كان في العمل أو التعليم أو الحياة الشخصية، دون قيود تفرضها الأعراف المجتمعية التي تُلبس تفسيرات دينية.
و يمكن أن يروج رجال الدين لأهمية حرية الاختيار للمرأة كجزء من التزام الدين بقيم الرحمة والمساواة، بحيث يتم تمكين النساء من اتخاذ قراراتهن دون قيود تتعارض مع روح الدين وكرامتهن.
---
في النهاية، يقدم المسكيني رؤية جديدة وواعدة للعلاقة بين الجندر والدين، ويعزز فكرة أن النصوص الدينية، إذا أُعيد تفسيرها من زاوية إنسانية وحقوقية، يمكن أن تدعم المساواة بين الجنسين. وتشير مقترحاته إلى أن الدين يمكن أن يكون منبعًا للعدالة والمساواة، وليس سببًا للتمييز. ومن هنا، فإن قراءة النصوص بروح منفتحة ومتجددة ستتيح لنا بناء مجتمعات أكثر تسامحًا وتقبلًا لقيم الكرامة الإنسانية وحرية الاختيار، مما يفتح آفاقًا جديدة أمام العلاقات الإنسانية في ضوء التعاليم الدينية.