ما وراء الفستان الأبيض



نور فهمي
2024 / 11 / 30

مشاهد اليأس والإحباط والتذلل والقهر، مدمجة بلقطات مختزلة للفرح والأمل؛ هى خلطة فيلم (الفستان الأبيض) المتميز؛ ببطولة فنانتين متمكنتين تماما من أدواتهن هما؛ (ياسمين رئيس وأسماء جلال) وبتأليف وتوجيه احترافي للمخرجة (جيلان عوف )

نظرة عامة على الشخصيات:
بطلة الفيلم (وردة)_والتى تقوم بدورها الفنانة (ياسمين رئيس)_ فتاة فقيرة..مخطوبة منذ سبع سنوات..ليست لديها أدنى تطلعات لحياة أفضل، بل إنها تسعى فقط لتوفير قوت يومها، وإتمام زواجها من الشخص الذى تحب.
أحلامها وطموحاتها اختفت فى زحام الحياة والسعى المستمر لتوفير أدنى مستوى من كسب المال والرزق..
_على عكس(بسمة)صديقتها المقربة_التى تقوم بدورها الفنانة (أسماء جلال)_ فهي تسعى دوما لحياة أفضل وتتجرأ على كل ما يقلق راحتها وتعترض وتثور فى وجه الظلم.
تهتم دوما بلفت النظر، وجذب الانتباه عن طريق مشاركة مقاطع فى كل لحظة على مواقع التواصل الاجتماعي، وكلما زادت إشعارات الاعجاب ..كلما أحست بانتصار مزيف!

_(عصام) خطيب وردة_والذى يقوم بدوره الفنان أحمد خالد صالح_شاب سلبى، لديه بعض الأفكار الرجعية..يساعد البطلة فى بداية رحلتها بشكل عابر ..دوره فى حياتها ثانوى، بل ووجوده يعزز أكثر من فكرة دور المرأة البطولى فى ايجاد طريقها،والحصول على هدفها بمفردها!
***
القصة:
يبدأ الفيلم بذهاب وردة و بسمة الى المنزل الذى تعمل فيه (أم بسمة) كخادمة..لتحصل على فستان زفاف ابنة هذه السيدة الثرية..ولكنها تفاجأ بأن الفستان محروق..أو قد تم حرقه عمدا؛ كى لا تلبسه فتاة فقيرة بعدها!!
وهنا تجسدت كل ملامح القهر والألم فى عيني العروس المبهوتة من اثر الصدمة !!
فهذه ليلة عرسها!!

_ما وراء الفستان الأبيض:

لم تكن رحلة البطلة هى البحث عن فستان فرح؛ بل البحث باستماتة عن السعادة المفقودة..أو ربما السعادة المزيفة والامتنان للمظاهر التى توحي بالسعادة، حتى لو كان صاحبها مفطور القلب..موبوء النفس!!

"كلنا بنستلف من بعض..عشان نتمنظر على بعض!!"

جملة قالتها صديقة البطلة، تعليقا على رحلتها!!
نعم؛ هى رحلة البحث عن المظاهر المزيفة للسعادة والتفاخر بما لا يملك مدعيها !!
فكم من حفلات أفراح تقام فى أغلى الفنادق؛ فقط لأجل أن يشعر المدعوين بأفضلية هذا الشخص، أو ليتفاقم غرور من يثير الغيرة فى قلوب الآخرين!
كم من الأثاث يتم شراءه، فقط للتفاخر أمام الضيوف..لا لأنه مريح بالفعل للزوجين!!
محاولة فاشلة لتجسيد سعادة لا وجود حقيقي لها فى عقول وقلوب مدعيها!!
تبدأ رحلة البطلة فى البحث عن الفرحة المفقودة ..أو بالأحرى "تسولها"؛ تسول نظرات الرضا المنتظرة من عيون المدعوين ليلة الفرح..تسول مظاهر الثراء المزيفة والسعادة المؤجلة..
تسول رضا الأم عن زوج ابنتها!!
تسول نظرات قبول الآخرين لها!!
كل ذلك من خلال رحلتها فى البحث عن الفستان الأبيض..رمز السعادة المفقودة فى حياتها..
تعايرها صاحبة اتيليه معروف، بشكل غير مباشر..حينما تدخل عليها (وردة)غرفة مكتبها..فتجد بصحبتها مذيعة مشهورة ..وسرعان ما تحاول صاحبة الاتيليه الحفاظ على مظهرها الاجتماعى بالتبرأ من معرفة (وردة) قائلة:
"دى مش زبونة عندى"
والمذيعة تشعر فجأة بقيمة الاتيليه المتدنية؛ بسبب تردد(وردة) عليه بملابسها البسيطة لشراء فستان الفرح!! مما يعنى أنها متساوية معها فى المكانة والقدر!!
ورغم أن صاحبة الاتيليه تدعى اسيتيرادها للفساتين من الخارج؛ إلا أنها تقوم بحياكتها وتفصيلها داخل الاتيليه فى مخبأ بالبدروم، وذلك للحصول على زبائن(الطبقة الراقية) ولو عن طريق الغش!!
فى كلمات معبرة ومن خلال سؤال طرحته وردة على صديقتها بعد أن خرجت مخذولة من الاتيليه:
(وردة): هم الناس دول مصريين زينا؟ من هنا يعنى؟!
(بسمة): ايوة يا اختى من هنا..احنا اللى من هناك"

فقد لاحظت ذكر السيدة لتكاليف الفرح الكبيرة، بينما هى لا تملك حتى ثمن فستان!!
يذهبن بعدها إلى محل بيع (لانجيرى للعرائس)..ويلتقيا بصديقتهن الثالثة، فيظهر على وردة سذاجتها بمعرفة أبسط أمور العلاقة الزوجية!!
وفى إشارة ساخرة من صديقتها، تنصحها بأن تبلل شعرها يوميا قبل الخروح إلى البلكونة لنشر الغسيل، لتتظاهر أمام الجيران بقدرات زوجها الجنسية ..حتى ولو لم تتم أى علاقة بينهما!!
وكأن من حق الناس أن يتدخلوا حتى فى أشد الأمور خصوصية وقداسة بين الزوجين ..استكمالا لعملية التباهى المزيفة!!

تذهب وردة وبسمة بصحبة صديقتهن الثالثة التى دلتهن على امرأة عجوز تعمل بمجال الأزياء فى السينما.
تحاول هذه السيدة مساعدة وردة فى البحث عن فستان أبيض، وسط كومة الملابس التى مازالت تحتفظ بها من أفلامها.
وعلقت العجوز الحكيمة على هذه المسألة قائلة:
"اللبس والمكياج مابيعملوش بنى ادمين..
ياما لبسنا وياما قلعنا..المهزوز..مهزوز من جواه!!".
وبعد أن حصلت (وردة)على الفستان أخيرا،
وأثناء عودتها منتصرة برفقة صديقتيها..يستوقفهن مجموعة شباب فى وسط الشارع، وينتشل أحدهم الكيس الذى كانت تحمله، ويخرج منه اللانجيرى،
فيتقاذفونه فيما بينهم ساخرين..
تتابع العروس صديقتها المحجبة بينما تتلقفها الأيادى وتتحرش بها وهى ساكنة ..لا تتحرك..لا تعترض..لا ترفع صوتها..صامتة..باهتة الملامح..مشلولة..ومقهورة..تحتضن فستانها الأبيض بقوة، خشية ضياعه وكأنه فرصتها الأخيرة فى النجاة!!
ثم مع تصاعد الأحداث ومراقبتها لنفسها الجبانة التى لا تثور، و لا تحرك ساكنا من أجل الدفاع عن صديقتها.. يتصاعد الصراع النفسى بين إنسانيتها وبين أنانيتها!!
تتتابع محاولات فاشلة لمقاومة شعور الاعتراض والثورة المتأججة فى صدرها من هذه الجريمة التى تشهد عليها.. وتقرر بالنهاية أن تتحرك للأمام بخطوات ثابتة..متحدية..داخل دائرة الظلم، لتخلص صديقتها المغلوبة على أمرها.. وأثناء ذلك تفقد
فستانها الأبيض؛ فرصتها الأخيرة،
بعد دهس عشرات الأقدام له وسط الحشد!!
《الفستان》..رمز للسعادة المفقودة ورمز لحق بديهي أصيل ..حق؛ ظلت تسعى باستماتة لكى تناله، وتذلها الأفواه كى تمنحها اياه!
حق، يبدو أنها لن تناله أبدا فى رحلة تسولها المهينة!!
وفى مواجهة بينها وبين صديقتها المقربة تعلق على حادثة التحرش الجماعي متساءلة :

(وردة): تفتكرى الحاجات اللى كانت معانا فى الكيس هى السبب؟!
(بسمة): لأ..الأسئلة اللى زى دى هى السبب..هى اللى خلتنا منسواش!!
وكعادة البطلة تلوم نفسها وبنات جنسها، مثلما يفعل أغلب مجتمعنا الشرقى للأسف؛ فيلوم المجني عليها، بدلا من الجاني، بالرغم من ارتدائهن الحجاب؛ والذى يدعى الكثير من الناس أنه يحمي السيدات من التحرش!!
كأن التحرش جريمة لها مبرراتها المقبولة من المجتمع!
كأننا نمنح الحق لهذا المجرم فى التعدى على أجساد النساء بمنتهى الأريحية والاستحقاق!!
وأخيرا بعد يأس البطلة من العثور على فستان قبيل زفافها..قررت هذه الشخصية البريئة الودودة التى تخشى رؤية ظلها، أن تسطو على أحد المتاجر ليلا،
لتستولى على فستان فرح ..فتقوم بتكسير الأقفال الحديدية، بلا خشية لضبطها متلبسة، أمام ذهول خطيبها (عصام) من تصرفها :
(عصام): هو انتى عايزة الفستان أوى كده؟!
فترد باصرار وتحدى :
(وردة):أنا عايزة حقى..هلبسه وارجعه تانى يوم!

تحاول ولأول مرة تحدى العقبات..التمرد على الظروف التى لا تسمح لها بأبسط حقوقها ..فهي تعمل وتجتهد وتنتظر فرحتها المفقودة؛ بلا طائل ولا عائد فى النهاية سوى اليأس والاحباط !!
فى جملة قيلت تعليقا من صديقتها على الفرص الضائعة حين سألتها باستنكار:
(وردة):هو ليه كل ما نقرب ..نبعد؟
(بسمة): ده سلو طريقنا!!"
وكأن الفستان الأبيض المفقود؛ رمز للسعادة التى لا تليق بالفقراء..ولا تليق بحياتهم مهما حاولوا!!
حتى عملية السرقة المؤقتة فشلت فيها !!
فيعترضها أحد سكان العمارة متساءلا باستنكار عن سبب وجودهم فى هذه الساعة ..والغريب فى الأمر أنه لا يشك فى أمر السرقة..بل مجرد رؤيته لرجل وامرأة بصحبة بعضهما البعض فى ساعة متأخرة من الليل، يثير نخوته المزيفة، ويرميهم بتهمة الفعل الفاضح فى الطريق العام!!
رغم أن الفعل الفاضح، والمشهد المخل لا مكان له إلا فى خياله المريض!!
سيق ثلاثتهم بعدها إلى قسم الشرطة،
حيث جلست وردة منتظرة حظها الذى يسوء مع ساعات الليل الأخيرة..ليلة عرسها .. ليلة العيد!!
وهنا تظهر ضيفة الشرف الفنانة القديرة (ميمى جمال) فبالرغم من أنه مشهد لم يتعدى الأربع دقائق؛ إلا أنه أكثر المشاهد تأثيرا فى الفيلم كله!
حيث أخبرتها السيدة عن سبب وجودها فى القسم؛ وهو تأخر سدادها لبعض الديون بسبب جهاز ابنتها..ودار حوار مؤثر حنون بينهما، تشعر فيه وكأنهما أم وابنتها ..مشهد حواره سلس متناغم، تحاول فيه هذه السيدة مساندة فتاة لا تعرف حتى اسمها.
مرددة :"ارفعي راسك يا بنتى..ارفعى راسك يا حبيبتى"
ثم بعد مرور لحظات، نرى لقطة عبقرية تظهر فيها يد وردة وهى تخلع نصف شبكتها لتضعها فى معصم هذه السيدة..
مشهد سيظل عالقا فى ذهني للأبد!!
كأن هذه الفتاة المسكينة، المغلوبة على أمرها، تقوم بدور البطولة فى إنقاذ ممن يعانون مثلها، وفى نفس الظرف والتوقيت رغم مصابها الجلل!!
بدأت البطلة رحلتها كفتاة بسيطة تشبه الأغلبية العظمى ممن يعشن حياتهن بلا هدف، ولا يحققن سوى رغبات أسرهن ومجتمعاتهن المعهودة..حتى وإن أردن عكس ذلك!!

"فضلت أصغر فى نفسى لحد مابقيت مش متشافة!"

كلمات وصفت البطلة فيها حالها ومآلها!!
ولكنها وبفضل هذه الرحلة ؛ تحولت لأنثى لا تعرف الخوف، ولا يهمها مظاهر السعادة الخادعة والهيصة والزيف!
ستكون صاحبة القرار وتنصهر فى جموح الحلم وطموحه..ستحقق ما تريد بالطريقة التى تستسيغها هى لنفسها.. لا تلك التى يرضى عنها الناس.
حتى ورقة الزواج التى نجتها من محضر الفعل الفاضح..ألقتها على الارض فى لحظة غضب؛ ثائرة على قوانين المجتمع وتقاليده وإطار أفراحه المزيفة!!
فى نهاية الفيلم؛ تجمعن بنات الحارة ونساءها وعكفن لساعات طويلة على إعادة تفصيل فستان فرح( أم وردة) القديم، واستقبلن وردة أخيرا بالزغاريد والغناء والرقص،
ولكنها للأسف، لم تفرح، ولم تتفاعل معهن، كما كان متوقع لها بعد هذه الرحلة الشاقة؛ بل أنهكها البحث لدرجة عجزت فيها حتى عن التبسم!!
حيث تركتهم لتجلس وحدها على كنبة (إسطنبولى) قديمة تحت سلم العمارة المتهالكة، وحينما جاء ليجلس زوجها بجانبها ويعرف سبب انسحابها وجلوسها وحيدة؛ أعلنت بتحدى:
"مش هستخبى وسط الزحمة تانى !! "
وبينما هم منغمسين فى حديثهم
سقط هيكل الكنبة التى يجلسان عليها!!
فتضاحكا من قلبيهما ساخرين على الظروف وصنيعتها
وسرقا من الدنيا فرحتهم، وسط كل هذا العبث واللاجدوى
ولكن هذه المرة؛
خارج إطار الجموع
وعلى طريقتهم الخاصة!