إعادة إنتاج الاضطهاد: قراءة مادية تاريخية للعنف ضد المرأة



خليل إبراهيم كاظم الحمداني
2024 / 12 / 1

المقدمة
العنف ضد المرأة يُعتبر واحدًا من أبرز القضايا الاجتماعية والسياسية التي تواجه المجتمعات الحديثة. لكن لفهم جذور هذه الظاهرة بشكل عميق، يعد من الضروري استخدام مناهج تحليلية تعكس تعقد العلاقات الاجتماعية والاقتصادية عبر الزمن. تُعتبر المادية التاريخية، التي نشأت من أفكار الفيلسوف الألماني كارل ماركس، أحد أبرز المناهج التي يمكن استخدامها لفهم هذا الموضوع. تركز المادية التاريخية على العلاقة بين البنية الاقتصادية والاجتماعية والتغيرات الثقافية والعلاقات البشرية. إذ تسلط الضوء على كيفية تأثر الأدوار الاجتماعية للنساء وتضامنها مع مختلف الأنظمة الاقتصادية السائدة، مما يجعل العنف ضد المرأة ظاهرة غير فردية أو معزولة، بل جزءاً من بنية تاريخية معقدة.
في هذه الورقة المختصرة ، سنستعرض كيف يساهم المنهج المادي التاريخي في فهم العنف ضد المرأة من خلال تحليل عدة جوانب، منها: البنية الطبقية، الأيديولوجيا، العمل والإنتاج الاجتماعي، التاريخ والمرحلية، دور النضال الطبقي، التحليل الجدلي، والرأسمالية. سنسعى لنقدم لمحة شاملة عن كيفية تأثير هذه الجوانب على تجارب النساء وكيفية مقاومة هذا العنف.
1. العنف ضد المرأة كنتاج للبنية الطبقية : تعتبر المادية التاريخية أن العلاقات الاجتماعية تتشكل من خلال البنية الاقتصادية والطبقية. وبالتالي، يُنظر إلى العنف ضد المرأة كأداة للحفاظ على السيطرة الاقتصادية والسياسية من قبل الطبقات المهيمنة. مع ظهور الملكية الخاصة وتأسيس النظام الأبوي في المجتمعات القديمة، أصبح النساء كثيرًا ما يُعتبرن ملكية للرجال. في هذا السياق، ارتبط العنف كوسيلة لضبط الأدوار الاجتماعية للنساء، حيث يتم استخدامه للحفاظ على النظام الأبوي.
تاريخيًا، كان يُعتبر العنف وسيلة لحماية الملكية الخاصة، حيث يُستخدم لضمان الولاءات الأسرية والحفاظ على الهيمنة الاقتصادية. يعكس ذلك كيف أن التربية الاجتماعية للنساء في مختلف الثقافات كانت تهدف إلى ضبط سلوكهن وتوجيههن نحو الأدوار التقليدية التي تُعزز السيطرة الذكورية. بالتالي، يظهر العنف كظاهرة تكرّس السيطرة الطبقية وتزيد من تفشي الفقر والحرمان لدى النساء.
2. تقاطع العنف مع الأيديولوجيا : تُظهر المادية التاريخية أن الأيديولوجيا تمثل انعكاسًا لمصالح الطبقة الحاكمة. الأيديولوجيات التي تدعم تهميش المرأة، سواء كانت دينية أو ثقافية، تأتي في إطار الحفاظ على علاقات الإنتاج السائدة. غالبًا ما يتم استخدام النصوص الدينية والتقاليد الثقافية لتبرير العنف ضد المرأة، مما يجعلها أدوات السيطرة الأيديولوجية المستخدمة من قبل الطبقات المهيمنة.
الأيديولوجيات السائدة تمتد عبر الثقافات المختلفة، حيث يُنظر إلى نمط العلاقات الاجتماعية على أنه ثابت، مما يُعزز من استمرار العنف. فالتقاليد الدينية والثقافية التي تُعزّز من تبعية النساء تُشكِّل جزءًا لا يتجزأ من البيئات التي تتيح للعنف الازدهار. هذه الأيديولوجيات لا تؤثر فقط على التصورات الاجتماعية لعنف النساء، بل تُحدد أيضًا الردود القانونية والسياسية على هذا العنف.
3. العمل الإنتاجي والتناسلية الاجتماعية : يمثل التحليل المادي اختلافًا جوهريًا بين العمل الإنتاجي (الذي يتصل بالاقتصاد) والعمل التناسلي (الذي يتعلق بإعادة إنتاج المجتمع). تُحبس النساء غالبًا في مجال العمل التناسلي، مما يعزز من تبعيتهم الاقتصادية والاجتماعية، ويجعلهم أكثر عرضة للعنف. في ظل هذا التقسيم، يتم تجريد النساء من قدرتهن على المشاركة الكاملة في القوة العاملة، حيث تُعتبر دورهن الأساسية في الأسرة كمهمة ثانوية أو غير مُقدَّرة اجتماعيًا.
تؤثر هذه الديناميات على النساء بطرق متعددة، مثل إعاقتهن عن الحصول على فرص عمل مناسبة ومواجهة العنف الجسدي والنفسي في البيئات الأسرية، مما يخلق حلقة مفرغة من الفقر وعدم المساواة. يتطلب تغيير هذه الأدوار التقليدية إعادة النظر في العلاقات الإنتاجية والتوزيع الاقتصادي للعائدات والموارد.
4. التاريخ والمرحلية : كان العنف ضد المرأة مبرراً بالترتيبات العائلية والإقطاعية، حيث اعتمدت هذه المجتمعات على تقسيم الأدوار بشكل صارم. في هذا السياق، كانت النساء تُرى كأدوات لإنتاج الورثة وإدامة الأسر، وكان يُسمح بالتمييز والعنف في سياق الحفاظ على التقاليد العائلية. استخدمت العلاقات الإقطاعية والأعراف الاجتماعية لتعزيز الهيمنة الذكورية، وآلت الأمور إلى أن العنف أصبح جزءًا مقبولًا من الحفاظ على النظام الاجتماعي.
في المجتمعات الرأسمالية، اكتسب العنف أشكالًا جديدة تتناسب مع الديناميكيات الاقتصادية المُتغيرة. هنا، يُستغل النساء كمصادر للقوة العاملة بأسعار منخفضة، وفي نفس الوقت، تُفرض عليهن معايير متعددة من الجمال والسلوك تُعزز من ثقافة الاستهلاك. يُنظر إلى النساء من خلال عدسة السوق الاستهلاكية، حيث يُعتبر جسد المرأة أداة للإنتاج والإعلان، مما يعيد إنتاج أشكال جديدة من العنف. بمرور الزمن، تُصبح النساء عرضة للاستغلال المزدوج: كعاملات وككائنات تُستخدم لتغذية النماذج الاجتماعية والثقافية المرتبطة بالاستهلاك.
5. دور النضال الطبقي في مقاومة العنف : تنظر المادية التاريخية إلى النضال ضد العنف تجاه النساء كجزء من النضال الطبقي العام. يمثل هذا المنظور دعوة للمطالبة بالتغيير الشامل في البنية الاقتصادية والاجتماعية التي تُكرّس العنف وعدم المساواة. فعندما نربط نضال النساء بالنضال ضد السيطرة الطبقية، يدعو هذا إلى توجيه جهود الإصلاحات الاجتماعية إلى معالجة القضايا الاقتصادية البنيوية.
تشير التجارب التاريخية إلى أن حركات تحرير المرأة، مثل الحركة النسائية في الأواخر من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، قد اندمجت مع الحركات العمالية التي سعت لتحقيق العدالة الاقتصادية. من خلال دعم النساء لمطالب العمل والعدالة الاقتصادية، يُمكن تعزيز الوعي العام بشأن العنف كجزء من النظام الاجتماعي والاقتصادي الأكبر، مما يساهم في بناء حركات مناصرة أكثر قوة.
6. التحليل الجدلي: العنف كظاهرة متغيرة: تستخدم المادية التاريخية المنهج الجدلي لفهم التغيرات في المجتمعات، مما يسمح بفهم العنف ضد المرأة كظاهرة غير ثابتة. إن هذه الظاهرة تتأثر بالصراعات الاقتصادية والسياسية وتغير علاقات الإنتاج، مما يعني أن العنف ليس مجرد حالات فردية بل هو نتاج الظروف المادية التاريخية المعقدة.
عبر التاريخ، تأثرت تصورات العنف ضد المرأة بالتغيرات الاقتصادية والاجتماعية المختلفة. في أوقات الازدهار الاقتصادي، قد تنخفض مستويات العنف لأسباب مرتبطة بالقدرة على تحقيق الاستقلال الاقتصادي. ومع ذلك، في أوقات الأزمات، يُمكن أن يزداد العنف كنتيجة للضغط الاجتماعي والاقتصادي المتزايد. من خلال هذا التحليل الجدلي، نستطيع أن نفهم كيف يتأثر الهيكل الاجتماعي بالتحولات الاقتصادية وكيف يمكن أن تتغير استجابات المجتمع للعنف.
7. الرأسمالية والعنف ضد المرأة: في ظل الرأسمالية الحديثة، يمكن تحليل العنف ضد المرأة كجزء من استراتيجيات السوق التي تستخدم أجساد النساء كأداة للإنتاج أو الترويج الاستهلاكي. يسهم هذا السياق في إعادة إنتاج أنماط السيطرة على النساء من خلال الإعلانات، الثقافة الشعبية، ونماذج العمل. تستغل الشركات السوداء والمجلات والنقابات قضايا المرأة في تسويق المواد الاستهلاكية، مما يساهم في تكريس الصور النمطية التقليدية التي تجعل من النساء أدوات للاستهلاك.
ومع ذلك، يُمكن أن تسهم الرأسمالية أيضًا في تفكيك بعض أنماط العنف التقليدي. مع الحاجة المتزايدة لمشاركة النساء في سوق العمل، تحاول بعض الأنظمة تحسين وضع النساء. لكن ينبغي أن نكون حذرين من أن هذا التحسين قد لا يصاحبه تغيير حقيقي في العلاقات الاجتماعية. وبالتالي، يمكن أن يُعاد إنتاج أشكال جديدة من العنف بصيغ أكثر خفاءً، مثل التحرش الجنسي في أماكن العمل أو استغلال النساء كموارد هشة في سوق العمل.
الخاتمة
يقدم تحليل العنف ضد المرأة من خلال منظور المادية التاريخية إطارًا قويًا لفهم الجذور العميقة لهذه الظاهرة المعقدة. يُظهر هذا المنهج أن العنف ليس مجرد ظاهرة فردية أو عرضية، بل هو نتاج للتركيبات الاجتماعية والاقتصادية المتنوعة التي تشكل التاريخ البشري. واستنادًا إلى التحليل المادي، يمكننا أن نفهم كيف أن القضايا المتعلقة بالعنف ضد النساء ترتبط بشكل وثيق بالطبقات الاجتماعية، الأيديولوجيات، وأشكال العمل.
وبالتالي، فإن الجهود الرامية لمواجهة العنف ضد المرأة يجب أن تكون شاملة وتعالج الأسباب الجذرية من خلال إعادة النظر في البنى الاقتصادية والاجتماعية السائدة. نحتاج إلى استراتيجيات تتجاوز القوانين والتدابير القسرية، وأن تكون مدعومة بنضالات الطبقات الاجتماعية ومكافحة الفكر المهيمن الذي يروج لثقافة العنف وعدم المساواة. فقط من خلال تغيير هذه الهياكل الأساسية، يمكن أن نحقق العدالة الاجتماعية والمساواة الفعلية بين الجنسين، ونبني مجتمعًا أكثر شمولية وأمنًا للنساء.